الإخوان وتمييز الحزبي عن الدعوي

حسن البنا كان آخر عهده قد اتجه لفصل الحزبي عن الدعوي.

لا يزال موضوع الحزبي والدعوي وموقف الإخوان من التمييز بينهما، أو الفصل العملي بينهما، موضع نقاش وجدل، وقد وصلني تعليق من المراقب العام السابق للإخوان في الأردن الدكتور همام سعيد، على ما كنت أثرته في حلقة نقاشية مغلقة، كنت قد أثبت فيها أن حسن البنا كان آخر عهده قد اتجه لفصل الحزبي عن الدعوي، وجئت بنصوص وشهادات على ذلك، وكان تعقيب الدكتور همام، أني لم أدلل على ما ذكرت بدليل من الكتاب والسنة، وبعيدا عن الصورة المسبقة التي للأسف نراها في تعقيبات بعض مسؤولي الإخوان، أتناول الموضوع من حيث موقف حسن البنا من هذه القضية، بل موقفه من مراجعاته في العمل السياسي كله.

ملاحظات أولية

 فالثابت أن البنا لم يراجع عمل الإخوان الحزبي فقط، بل راجع كل عملهم السياسي، وكان له موقف هو آخر عهده، به. ولكن لي ملاحظات وتمهيدات أقدم بها قبل الحديث عن الموضوع.

أولا: المقصود بفصل الحزبي عن الدعوي هنا، أي تمييز كل عمل منهما، وليس الفصل بمعنى فصل الدين عن السياسة، فهذا لم يقل به أحد مطلقا، لا من داخل الإخوان ولا من خارجهم ممن يؤمنون بالفكرة الإسلامية، ربما يصدر ذلك من علمانيين وهذا مبدأ عندهم لا يطالبون به الإخوان بل يطالبون به المسلمين جميعا، أن يفصلوا بين الدين والسياسة، وهو أمر مرفوض دينيا. فالكلام إذن عن ما يسمى بمبدأ التخصص في العمل.

ثانيا: هل معنى أننا نؤمن بأن الإسلام دين شامل، ينتظم كل شؤون الدنيا والآخرة، هل معنى ذلك أن يكون المسلم نفسه شاملا؟ فيكون عابدا، وعسكريا، وطبيبا، ومهندسا، وسياسيا، وسباكا، وفلاحا، وهكذا؟!! أم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل ميسر لما خلق له”، فهناك من خلق للعلم، وهناك من خلق للسياسة، ومن خلق للعمل المهني، فالمقصود هنا التخصص، أي أن تتخصص الإخوان المسلمين فيما تفهم فيه، وفيما تحسنه، وكذلك يتخصص أفرادها فيما يحسنون، وما لا يحسنونه فعليهم استكمال جوانب النقص فيه ولا يقحموا أنفسهم فيما لا يتقنون، فهل من شروط شمولية الإسلام، أن تكون الجماعات الإسلامية شاملة كذلك؟ هذا لم يقل به أحد عاقل، ولم يسع مؤسسو هذه الجماعات لذلك، بل كان سبب قيامهم ونشأتهم: رأوا خللا في الأمة، فقاموا بسده، كل بما يستطيع.

ثالثا: لاحظت عند نقاش هذا الموضوع في الإخوان، أن هناك قيادات معينة تصر على إغماض الأعين، وصم الآذان، وتعطيل العقل عن العمل، تجاه أي نقاش لأي نقد لأدائها، أو عملها السياسي والدعوي، وهو أمر غير مقبول، فمن حقك أن ترفض النصح من أحد في أمر خاص بك، لكن عندما تكون حركتك بما فيها من صواب وخطأ، تتعامل فيها مع الشأن العام للأمة والمجتمع، فليس من حقك أن ترفض توجيه فعلك وقولك، بدعوى أن هذا شأن خاص بك، ولذا للأسف تجد ردودا من بعض هذه القيادات عند تأملها تراها خارج سياق الحديث، وتدل على أنه لا يفهم الموضوع جيدا، لتصور مسبق عنده لا يريد أن يخرج عنه.

رابعا: نقاش الموضوع أثبت ما كنت وما زلت أعتقده من أن كثيرا من قيادات الإخوان ليست لديه فكرة عن تاريخها، ولا عن أفكارها الحقيقية، ولا تفاصيل مهمة عنها، لأنه دخلها عن طريق العمل العام، وكلما نوقش في قضية تحدث بتصوره هو الشخصي عن الموضوع، بينما عندما تعود لأدبيات الجماعة وتاريخها تجده عكس ما يقول، وضد ما يفعل.

خامسا: البعض يناقشك في قضايا تاريخية بعقلية: أين الدليل من الكتاب والسنة، مع تقديري لهؤلاء الأشخاص، فنحن نتناقش هنا في قضية تاريخية، وفي أداء بشري للسياسة، فما علاقة الدليل الشرعي هنا بما نتحدث فيه، نحن نتحدث عن موقف تاريخي نقول فيه: حدث أم لم يحدث، الدليل الشرعي يطلب عندما أطالبك بالإلزام أن تفعل شيئا له صفة دينية، تدخل في باب الحلال والحرام، لكن النقاش هنا في موضوع تخصص جماعة ما في شأن ما، هل تصلح له أم لا؟ هذه مسألة خبرة وتاريخ وليست مسألة حلال وحرام.

موقف حسن البنا من القضية:

أما عن موقف حسن البنا من القضية فقد تحدث أكثر من شخص من المقربين منه قبل وفاته في الموضوع، فقد كان يرى أخطاء هذا التوجه بالانغماس في السياسة دون إعداد لها، ورأى أن عمله السياسي غير المدروس، قد أدى لصدام مع الحكومة آنذاك، وأنه خروجا من هذا المأزق، ومحاولة منه لتجنيب الجماعة المصادرات والحل، وغيره من الإجراءات التي لاحت له في الأفق آنذاك، فعليه أن يقوم بمراجعات ليست قليلة لما قامت به الجماعة، وبخاصة في الجانب السياسي، وقد أدلى كبار معاصريه بشهادتهم في ذلك.

شهادة فريد عبد الخالق:

أما الشهادة الأولى فلشخص كان بجانبه لفترة طويلة، حتى قبيل وفاته بأيام، وهو الأستاذ فريد عبد الخالق رحمه الله، وقد سمعنا منه شهادته وجها لوجه، وفي حلقات مسجلة كذلك في برنامج (شاهد على العصر) الذي يقدمه الأستاذ أحمد منصور، وكان مجمل ما ذكره أنه في عام 1946م التقى حسن البنا بفريد عبد الخالق عضو مكتب الإرشاد، ثم التقى بعده بمكتب الإرشاد وناقشوا ما يلي: نحن جماعة تؤمن بالإسلام الشامل، ومن شمول الإسلام: الاشتغال بالسياسة، فهل شمول الإسلام يعني شمول الجماعة؟ وبخاصة المجال السياسي الذي تحتاج الجماعة إلى الاستعداد إليه استعدادا قويا، فطرح حسن البنا طرحين مهمين، أولهما: فكرة البحث عن حزب يتجه بأفكاره قريبا من أفكار الإخوان، لكن لا شعبية له، ويكون الإخوان الظهير الشعبي له، ووقع اختيارهم على (الحزب الوطني) الذي كان مسؤوله وقتها الأستاذ فتحي رضوان، وقد أسسه الزعيم مصطفى كامل، بحيث يعبر الحزب عن المواقف السياسية للإخوان، وقد فاتح حسن البنا فتحي رضوان في ذلك، وكادا يتفاهما عليه، أو لقي ترحيبا من حيث المبدأ.

وأما التفكير الثاني، فهو فكرة (الفيبيانز) وهي فكرة نشأت في القرن التاسع عشر في بريطانيا، وتحولت فيما بعد لحزب سياسي، وهي أن يترك الأفراد تختار ما تشاء من أحزاب سياسية تمثل فكر كل مجموعة من الشباب في الجماعة، بحيث يتواجد كوادر الإخوان الشابة التي تربت على الإسلام خلقا وشريعة، في كل هذه الأحزاب، فيكون لوجودهم أثر خلقي مهم في الحياة الحزبية، ويستفيد الشباب أن يتكونوا تكوينا سياسيا حزبيا متدرجا، وفي كلتا الحالتين تستفيد الجماعة ويستفيد العمل السياسي الحزبي في مصر.

وقد أعاد البنا هذا الطرح على الأستاذ فريد عبد الخالق قبل وفاته بأيام، وقد كانا يتمشيان على كوبري قصر النيل، وقال له: دبرني يا فريد اعمل إيه، والخناق يضيق علينا، ودخولنا العمل السياسي بهذا الشكل جلب علينا مشكلات كبيرة لم تكن في الحسبان، ثم طلب منه دراسة الحالة الحزبية في بريطانيا للاستفادة منها، ومحاولة الخروج من هذا النفق بإجراء قانوني وعملي يحفظ على الجماعة قوتها وكوادرها.  

شهادة فتحي رضوان:

وقد كتب الأستاذ فتحي رضوان رحمه الله، والذي كان أحد كوادر الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم الراحل مصطفى كامل، مرتين عن توجه حسن البنا الأخير في كيفية العمل السياسي للإخوان. يقول فتحي رضوان: (في شتاء 1948م كنت دائم الاتصال بالمرحوم الأستاذ البنا وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره رحمه الله جديا، في أن يكل نشاط الإخوان المسلمين السياسي إلى الحزب الوطني، وأن يقتصر عمله هو ودعوته على الناحية الدينية البحتة) انظر: جريدة الأهرام المصرية العدد الصادر في 29 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1950م. وهو ما أكده محمود عبد الحليم، ونقله نقل الموثق له، انظر: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، الجزء الثاني ص: 121-124.

وفى ١٩ فبراير سنة ١٩٧٦م عاد الأستاذ فتحى رضوان للموضوع مرة أخرى بتفاصيل جديدة مهمة، فكتب مقالاً فى جريدة الجمهورية تحت عنوان (قبل أن يغتالوا حسن البنا)، أكد ما ذكره من قبل في جريدة الأهرام عن التوجه الأخير لحسن البنا في العمل السياسي ورغبته السابقة في إحالة العمل السياسي للحزب الوطني، فقال: (وكانت هذه الرغبة تؤرق الأستاذ المرشد على ما بدا لى، لأنه كان يرى هذه المساهمة فرضًا وطنيًّا على الجماعة يجب أن تؤديه، ولكنه كان يرى فى الوقت نفسه أن هذه المساهمة بصورتها التى فرضتها الأحداث من جهة، ورغبة عدد من زعماء الإخوان من جهة أخرى؛ قد تحجب الأصل الذى قامت عليه الإخوان، وهو كونها جماعة دعوة وإرشاد، وتهذيب للنفوس، ورد الناس إلى دينهم، واستلهامه فى شؤون دنياهم وآخرتهم، ولا يغير من الأمر أن يكون الإسلام دينا ودولة، وسيفا ومصحفا، فرسالة جماعة الإخوان المسلمين الأولى هى تقويم الجانب الدينى من حياة المصريين أولا، والمسلمين عامة ثانيا، باعتبار هذا التقويم مدخلاً مباشرًا لتقدم حياة المصريين والمسلمين فى جميع دروب وفروع الحياة، والاستغراق فى العمل السياسى، وما يجره من معارك، لا شك صارف الجماعة، ولو إلى حين عن كفاحها الذى نصبت نفسها له أولا.

لهذا كله قال الأستاذ حسن البنا: إنه فكر طويلاً ليخرج من هذا المأزق الذى أوصلت إليه مجريات الأمور الجماعة، فرأى أن أفضل الحلول هو أن يرفع عن شـُـعب الإخوان المسلمين فى كل مكان اسم الجماعة، ويضع عليه اسم الحزب الوطنى، وأن يخير الإخوان بين أن يبقوا فى الجماعة للنشاط الدينى البحت، أو أن ينقلوا نشاطهم إلى الحزب الوطنى، قال ضاحكا: فيبقى معى الدراويش، أما الذين لهم طموح سياسى، ولهم قدرة على تحقيقه، ورغبة فى مكابدته، فالحزب الوطنى خير ميدان لهم، أطمئن عليهم فيه، وأطمئن أنا إليه، فلم تبد علىَّ الدهشة لسماع هذا الكلام، فقد عرفت منه مرارًا حسن ظنه بالحزب الوطنى، ولطالما سمعته يثنى على جهاد مصطفى كامل ومحمد فريد ويترحم عليهما).

أما عن مراجعة حسن البنا لانغماس الإخوان في السياسة دون إعداد، ودون تأهيل فهو حديثنا في المقال القادم إن شاء الله.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه