الإخوان.. دعوة للنقد الذاتي

لماذا فشلت تجارب الإخوان في الوصول إلى السلطة، وفي البقاء فيها إذا وصلت؟!…

(1)

هذا السؤال وحده يكفي للانطلاق فورا في مراجعة “المشروع السياسي” للجماعة، أما “المشروع الحضاري” فيحتاج إلى مراجعة أوسع وأشمل، لا تقاس بهدف الوصول إلى السلطة، بل بأمل بناء الأمة، وأنا ممن يؤمنون بأن “الإسلام” هو قلب أي مشروع حضاري لهذه الأمة، و”الإسلام الحضاري” الذي أقصده ليس حكراً على الإخوان، وليس شأنا خاصا بالمسلمين، لأنه شأن كل المواطنين الذين يعيشون في هذه الأمة، مهما اختلفت عقائدهم، وعشائرهم، وأفكارهم، وألوانهم..

(2)

كنت قد قلت في مقالي الأول عبر هذا المنبر، إنني “فكرت في نقلة جديدة تترجم دعوتي لتأسيس “سلطة المواطنة” بلا تمييز بين كل أفراد وفئات المجتمع، وإن هذا الخيار يدفعني للاقتراب خطوة كبيرة من جمهور الإسلام السياسي، وفي القلب منه الإخوان”، لكن هذا الاقتراب لم ولن يكون اقترابا من فريق على حساب فريق، ولن يقفز على خلاف الأفكار واختلاف الأدوار، لكنه يفسح المجال للحوار بدلا من الاقتتال الأعمى، والتمترس في الخنادق الحصينة لأوهام الذات، كلُ يتصور أنه الأحق والأصوب، وقد نصحني مخلصون كثيرون بتفادي هذه الورطة، لكن النصائح كانت تستحضر في ذهني مثال عدم مساعدة شخص دهسته سيارة وهربت، لأن نقله إلى المستشفى سيعطل برامجي، ويورطني في الجريمة كمسؤول عنها، وليس كفاعل خير.. وقد أصابتني بالفعل سهام وحراب الطرفين.. هاجمني قطاع من الإخوان بضراوة، وهاجمني خصومهم بشماتة، لكنني عزمت أمري مستعينا بالله على مواصلة جهدي المتواضع في تكسير أسوار “الجيتوهات” التي تنذر بتجلط الدماء في شرايين مصر، وفي مختلف أقطار المنطقة، وليس هناك من أمل في تذويب هذه “الجلطات” إلا بتحقيق المفهوم الشامل  للمواطنة، انطلاقا من سنة الرسول الكريم في المدينة المنورة، وصولا إلى أحدث المعايير الدستورية والأممية في عصرنا الحالي، وما يستجد من حقوق ومواثيق للحرية والمساواة في العصور المقبلة، ونقطة الفصل أن كل مواطن: حر في العقيدة، ومقيد بالشريعة.

(3)

لما كنت أتوقع حملات الهجوم على شخصي من الجانب الإخواني، باعتباري منقلب على حكم مرسي، ومن الجانب الآخر باعتباري منقلب على “دعم الدولة”، فلم أهتم بالنزعة الانفعالية، ومفردات السب والتخوين، وركزت اهتمامي على تحليل مضمون التعليقات، وكانت السمة الغالبة التي تجمع الطرفين هي مرض الانغلاق على “جماعة”، والإنكفاء على رؤية جزئية تخص هذه الجماعة، وينطلق أصحابها من أنهم على حق، وغيرهم على باطل، ولا يختلف في ذلك جمهور الإسلاميين مع جمهور أي أحد أو أي اتجاه غيرهم، من الشيوعيين والقوميين والناصريين والليبراليين و”رعايا الدولة”، تحول المجتمع إلى جزر منفصلة، تتسلح بأفكارها وشتائمها في مواجهة خصوم لا شركاء، ومع سيطرة الإعلام على الثقافة، والتعليقات القصية على الفكر والحوار، صار السباب أسهل، وكل من يجادل في أي فريق فقد “صبأ”، لهذا غابت جرأة الدعوة للحوار والشراكة وفق قواعد لا خلاف عليها نظريا، وحل محلها سلوك “انصر فريقك ظالما أو مظلوما.. واهجم على الآخرين دون أن تفكر”.

(4)

 تحسبا لهذه المعارك الإجبارية، التي لا مكسب فيها لأي طرف، كان لابد أن أرفق دعوة المواطنة بما أسميته “حديث المراجعات”، وهو حديث يدعو لنقد الذات، وليس النقد من الخارج، فالنقد من الخارج (في هذه اللحظة القلقة) يصيب أي تيار بحالة صعبة من حساسية الرفض والعناد، أما النقد الذاتي وسعي الأفراد والجماعات للتعرف على مشكلاتهم الداخلية، ورغبتهم في تطوير أفكارهم وأحوالهم، فإنها أكثر قبولا وأكثر نفعا في حالة الصدق مع النفس، وهذا ما دفعني لنوع من “خطاب التحفيز”، وليس “خطاب التعجيز”، فقد رأيت أن أُبرز الجوانب الناصعة في تاريخ كل جماعة وتيار، وأدعوهم لمراجعة مشروعهم، وتنقيته بما يحفظ لهم الأفضل والأجمل، ويعفيهم من الأفكار والأساليب التي تجاوزها الزمن، وقد تكون هي سبب الفشل المتكرر في تاريخنا، وقد بدأت بالحديث إلى “الوفديين” ولم تقم ضجة، وإلى “الأقباط” ولم تقم ضجة، وبينما ثارت الضجة قبل أن أبدا حديثي مع الإخوان والسلفيين وجمهور الإسلام السياسي بشكل عام.. أي بمجرد النية، وقبل أن يقرأ أحد طرحي!

(5)

قبل أشهر قليلة صرخت من الألم وأنا تحت يد طبيب الأسنان الذي يحاول انتزاع عصب الضرس المتسوس، فقال لي الطبيب وهو يبتسم: كده اطمنت أن الحشو سينجح لأن العصب لا يزال حياً. هذا الموقف يراودني كثيرا عندما أراقب درجة الألم في حياتنا.. لا يزال العصب حياً، لا تزال الفرصة سانحة أمامنا للتخلص من كل هذا التسوس الذي أضر بمجتمعنا، لا يزال “الدين” عاملا مهما في تكوين هذا المجتمع، لا تزال أسئلة التحديث والعصرنة والعقلنة تحتاج إلى إجابات، لا زالت حاجتنا شديدة وعاجلة إلى مشروع حضاري شامل، بدلا من مشاريع الحكم التابعة التي تحولت إلى سرطانات في الجسد العربي.. فما أحوجنا لبناء وطن عصري بقواعد دستورية حديثة، لا لكي نطمس أفكارنا وعقائدنا وثقافاتا النوعية، ولكن لكي نمارس فيه تنوعنا واختلافنا بلا تقاطعات في الحرية، وبلا عنف، وبلا خشونة، وبلا كراهية وشتائم.

(6)

لم يتسع المقال لسرد أمثلة من أخطاء الإخوان في إدارة مشروعهم السياسي، وإدارة علاقتهم بإخوتهم خارج الجماعة، ولم أجد حماسا في نفسي لاستكمال النقد في مقال لاحق، لأنني كما قلت: لا أنتظر نتيجة طيبة من النقد الخارجي للإخوان، لأن حساسيتهم تجاه الآخر، تستثير فيهم نزعة الدفاع عن أنفسهم، وحمية الهجوم على من يخالفهم، لذلك أختتم مقالي بدعوة الإخوان لمراجعة مشروعهم بأنفسهم، وتقديم إجابة على السؤال الذي طرحته في مقدمة المقال، ومعه أسئلة أخرى مثل: لماذا وصلوا إلى هذه الحال من العداوة مع المجتمعات التي انتشروا فيها بسهولة من قبل؟، وما مدى استفادتهم من ثنائية التعاون والصدام مع السلطة، بل ومن فكرة السلطة نفسها؟، وما هي حقيقة نظرتهم لمفهوم الوطن والمواطنة؟، وهل المسلم الماليزي لا يزال أقرب إليهم من المواطن القبطي؟، وما مدى إيمانهم بمشروعية استخدام العنف في المشاريع السياسية الداخلية بحيث تتم التفرقة بين مقاومة الاحتلال في قناة السويس خلال الأربعينيات والخمسينيات، وبين معارضة الأنظمة السياسية داخل المجتمع؟.. أو بصياغة سياسية تلائم الوضع الملتبس حاليا: لماذا لا يتنصل الإخوان من العنف السياسي بشكل واضح وقاطع؟… وأسئلة أخرى أثق أن عقلاءهم أكثر معرفة بها مني..

(7)

ختاما.. دعوة المراجعة ليست للإخوان وحدهم، لكن للجميع، إبدأها بأنك إنسان، ثم مواطن في بلد ما لك فيه حقوق وعليك واجبات، ثم ضع بعد ذلك ما شئت من صفات، دون تعارض مع انسانيتك ومواطنتك

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه