الأزمة التركية الأوربية.. قراءة في الأسباب والتداعيات

أزمة لعلها الأعنف التي تضرب علاقة الطرفين التركي والأوربي.

 لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها الأزمة الأشد منذ قيام الجمهورية التركية 1924 ،على أنقاض الدولة العثمانية.

الأزمة المتفاقمة صارت تحتل الصدارة في نشرات الأخبار ، وأخبار الصحف، وبرامج التحليل السياسي، دلالة على عمقها وتمددها ، إضافة إلى تداعياتها المحتملة .

فالعلاقة بين الطرفين انتقلت من النقيض إلى النقيض ، فقبل عام أو أكثر لم يكن ثمة حديث إلا عن التفاوض حول مزيد من الفصول المتعلقة بمباحثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي ، قبل أن ينتقل الحديث إلى اتفاقية اللاجئين التي تعهدت أوربا بمقتضاها بإعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول إلى القارة العجوز، مقابل لجم طوفان اللجوء والهجرة الذي مثَّل تهديداً حينها لاستمرارية فتح الحدود بين دول القارة.

لكن أسباباً عدة دفعت إلى تأزم علاقة الطرفين ، ورغم أن العنوان الرئيس للأزمة هو التعديلات الدستورية المرتقبة في تركيا في ١٦ أبريل/ نيسان المقبل ، إلا أن أسباباً كامنة عبر محطات مختلفة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال ، عند قراءتنا للأسباب .

أسباب تتجاوز التعديلات الدستورية

البدايات الأولى الأزمة ، كانت مع إلغاء بلدية فورتمبيرغ لفاعلية كان سيحضرها وزير العدل التركي بكير بوزداغ، للدعوة إلى التعديلات الدستورية، وهو الإجراء الذي اتهمت الخارجية التركية ما أسمته الدولة العميقة في ألمانيا بالوقوف خلفه .

لكن الأزمة وصلت ذروتها مع منع السلطات الهولندية طائرة وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو من الهبوط في أراضيها، حيث كان يعتزم اللقاء مع الجالية التركية لشرح التعديلات الدستورية. التصرف الهولندي تجاه تشاووش أوغلو، حمل وزيرة الأسرة والسياسات الاجتماعية فاطمة بتول صايان كايا على الإعلان عن التوجه في اليوم ذاته من ألمانيا حيث كانت متواجدة ، إلى مدينة روتردام الهولندية عن طريق البر؛ لكن موكب الوزيرة تم منعه على بعد ثلاثين متراً فقط من مقر القنصلية التركية ، حيث تم معاملتها معاملة غير لائقة وصلت إلى حد التهديد بالاحتجاز ما لم ترجع من حيث أتت .

ثم كانت التصرفات الأشد عنفاً وقسوة ، تجاه الآلاف من أبناء الجالية التركية الذين احتشدوا انتظاراً لوصول الوزيرة فاطمة بتول ، حيث تم تفريق المحتشدين باستخدام الكلاب والهراوات، في مشهد ندر أن ترى مثله في دولة أوربية، ما مثل صدمة حقيقية للشعور العام التركي، دفع الآلاف منهم إلى التظاهر أمام سفارة هولندا وقنصليتها، في أنقرة وإسطنبول.

تصرفات هولندا قابلها المسؤولون في أنقرة ، بعاصفة من التصريحات ، كان أشدها ما صرح به الرئيس رجب طيب أردوغان حيث وصف هولندا بأنها من بقايا النازية ، وهو ذات الوصف الذي وصف به التصرفات الألمانية من قبل .

هولندا حاولت تبرير منع الوزراء من إقامة فعالياتهم – الذي تخطى الأعراف الدبلوماسية المعمول بها – بأنها لا تريد أن تتحول أراضيها إلى ساحة للصراعات التركية ، وهو أمر كان يمكن تفهمه لو أنها التزمت الحياد التام ولم تمنح الإذن للأطراف التركية الرافضة للتعديلات لإقامة الفاعليات واللقاءات المختلفة على نحو سافر .

فقد منحت عبد اللطيف شنر النائب السابق في حزب العدالة والتنمية إذناً ،لإلقاء ثلاث محاضرات بتواريخ 3 و4 و5 مارس/آذار الحالي، تمحورت حول ” لماذا ينبغي التصويت بـ لا في الاستفتاء؟”، وسط اهتمام كبير من الإعلام الهولندي.

كما سمحت لمتين فيزي أوغلو ،رئيس اتحاد نقابات المحامين الأتراك بإقامة فعالية مناهضة للاستفتاء في أحد فنادق روتردام، في 18 فبراير/شباط المنصرم، بمشاركة النائب عن حزب العمال الهولندي ككليك يوجال (وهو من أصول تركية).

كما لم تر هولندا بأسا في قيام البرلمانية عن حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، طوبا هزر أوزتورك، الصادر بحقها مذكرة إلقاء قبض في تركيا، بتنظيم حملة مناهضة للاستفتاء. كما شاركت طوبا بفعالية نظمها منتدى “لا” الأوربي الذي أسسه أنصار منظمة (PKK) الإرهابية في أوربا، ضد التعديلات الدستورية .

الهيستريا الأوربية تجاه التعديلات الدستورية ، لم تتوقف عند ألمانيا وهولندا ، بل امتدت إلى النمسا التي صرحت بأنها لن تسمح لأي وزير أو مسؤول تركي بلقاء الجالية التركية، والدنمارك التي طلبت من رئيس الوزراء بن علي يلدرم تأجيل زيارة له كانت مقررة من قبل .

التطورات السابقة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ، وسارعت إلي التعجيل بظهور المخبوء تحت السطح، ولم تكن السبب الأوحد لتدهور علاقة الجانبين .

فتركيا لا تزال تشعر بالمرارة من رفض طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوربي ، ووقوفها عقوداً على أبواب القارة دون أن يؤذن لها بالدخول ، في وقت سمح فيه الاتحاد بانضمام دول صغيرة ، هذه المرارة تحولت إلى شعور بأن أوربا تتعامل مع تركيا من علٍ وهو ما ترفضه تركيا حكومة وشعباً ، حيث أشارت استطلاعات عدة للرأي ، أن نسبة كبيرة من الشعب التركي لم تعد مؤيدة لمساعي الانضمام للاتحاد .

كما يشكو الأتراك من التدخل الأوربي المتكرر في شؤون بلادهم ، والذي وصل إلى حد إيواء أعضاء تنظيم (PKK) المسؤول عن أغلب العمليات الإرهابية ضد المدنيين في العديد من مدن تركيا ، حيث تسمح لهم أوربا بتنظيم الفاعليات المختلفة وجمع الأموال ، وتنظيم أنشطة اقتصادية تدر على التنظيم ملايين الدولارات يعاد ضخها إلى الداخل التركي ، على هيئة أسلحة ومتفجرات .

الحكومة التركية اتهمت أوربا ، بالترحيب بالمحاولة الانقلابية في ١٥ يوليو/تموز الماضي ، ولا يزال إيواء اليونان لبعض العسكريين الضالعين في المحاولة الانقلابية والفارين على أراضيها ، يمثل غصة في حلق تركيا ، إذ ترفض أثينا تسليمهم رغم الطلب التركي  المتكرر .

كل هذه الأسباب أدت إلى برود العلاقة بين الطرفين خلال الفترة الماضية ، قبل أن تتفجر على النحو الذي نتابعه الآن .

تداعيات الأزمة

متابعة السلوك التركي في التعامل مع أزمات مشابهة ، يجد حرصها على فصل السياسي عن الاقتصادي ، فتدهور علاقتها السياسية بدولة ما ، لا يحملها على تحطيم كل سفنها كما يقال ، بل تحاول الإبقاء على سفينة الاقتصاد في مسارها دون مساس .

فبحسب وزير التجارة والجمارك بولند طوفنكجي، فإن تركيا ستكتفي حالياً بفرض عقوبات سياسية وقانونية ، مؤكداً عدم نية بلاده حالياً في فرض عقوبات اقتصادية على هولندا .

العقوبات التي أشار إليها طوفنكجي ، أكد نائب رئيس الوزراء، المتحدث باسم الحكومة التركية، نعمان قورتولموش أنها ستتمثل في تعليق العلاقات رفيعة المستوى، والاجتماعات المخطط لها مع هولندا .

وكانت تركيا قد قررت في الساعات الأولى ، التي أعقبت منع طائرة تشاووش أوغلو من الهبوط ، حظر هبوط الطائرات التي تحمل مسؤوليين أو دبلوماسيين هولنديين إلى تركيا .

كما أبلغت أنقرة القائم بالأعمال في السفارة الهولندية ، عدم رغبتها في عودة السفير الهولندي الذي يقضي إجازة خارج تركيا ، إلى عمله بصورة مؤقتة .

لكن لا يبدو أن تركيا ستكتفي بهذه الحزمة من الإجراءات ، إذ لا تزال تصريحات المسؤولين فيها تؤكد أنها لن تترك الأمر يمر دون معاقبة المسؤولين الهولنديين عقاباً سياسياً ودبلوماسياً .

كثيرون يتوقعون أن يتم احتواء الأزمة ، إلا أن ذلك لن يتحقق سريعاً أو على المدى المنظور ، خاصة وأن اليمين الأوربي يحاول استغلال الموقف لزيادة أسهمه الانتخابية، كما تحرص تركيا على استثمار الموقف الأوربي المناهض للتعديلات ، لإثبات صحة موقفها في التحول إلى النظام الرئاسي ، مما يدعم مركزها قبل حلول موعد الاستفتاء .

لكن يبقى الموقف الأوربي من التعديلات الدستورية ، التي تعد شأناً تركياً محضاً لغزاً كبيراً ، خاصة وأن النظام الرئاسي معمول به في كثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة ، كما أن الادعاءات الأوربية السابقة بالخوف على الديمقراطية لم يعد لها محل من الإعراب ، خاصة بعد دعمها الثورات المضادة في المنطقة العربية؟

تساؤلات قد نعود إليها لاحقاً .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه