الأبرياء يدفعون الثمن

لذلك سأظل أقولها وأعمل من أجلها، مهما كان الثمن باهظاً: #ارحل_يا_سيسي

(1)

البريء.

عندما تنطق هذه الكلمة المفردة وتسكت بعدها، سينصرف الذهن مباشرة إلى العبد المأمور، الجندي مجند أحمد سبع الليل رضوان الفولي، بطل فيلم «البريء» الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه عاطف الطيب، عن شاب (بريء/ ساذج) يكتشف أنه لم يكن يقتل أعداء الوطن، بل كان بجهله وتصديقه لقادته، يقتل الوطن نفسه.

(2)

دراما الشخصية «البريئة/ الساذجة» انتشرت في الأدب والسينما، كامتداد مأساوي (ونقيض أيضًا) لهزلية «دون كيخوتة»، التي كتبها سيرفانتس مرثية موجعة لانتهاء زمن الفروسية، أحمد سبع الليل كان كذلك، بالرغم من أنه لا يعرف «دون كيشوت» ولم يحلم يومًا بأمجاد الفروسية، ولم يكن يسعى إلى أي بطولات أمام محل البقال في القرية وهو يلتهم الحلاوة بالشطة، أو يدخل مراهنات ريفية مع غيره، فقط كان يتحايل من أجل لقمة العيش، ومن أجل البقاء آمنا في الظل.

(3)

يمكنني أن أقول (مأخوذا بولع التشبيهات) إن «أحمد سبع الليل»، كان نسخة مصرية من البريء الأمريكي «جوزيف تيرنر»، الذي ظهر في نيويورك قبل 10 سنوات، عندما قدمه سيدني بولاك في فيلم «أيام النسر الثلاثة» باعتباره شابا ساذجا، يتصرف كالمراهقين، مغرم بقراءة القصص البوليسية المصورة، لا يحب تحمل المسؤوليات، يجوب شوارع مانهاتن على متن «موتوسيكل»، يضع في مكتبه صورة كبيرة لأينشتاين وهو يخرج لسانه في حركة ساخرة، ويعتقد أنه يخدم الوطن من غير أن يؤذي الآخرين. باختصار كان تيرنر يظن أنه بمأمن من الشر، ومؤامرات الجاسوسية، مادام مكتفيا بالبقاء في الظل، يراقب صراعات السلطة من بعيد، من دون أن يقترب منها، ولا أن يفكر في مصدرها ولا في نتائجها عليه وعلى غيره من «الأبرياء/ السذج».

(4)

عندما فوجئ تيرنر بالمذبحة البشعة التي حصدت أرواح زملائه في المكتب من دون ذنب اقترفوه، لم يكن لديه وقت ليستوعب ما حدث، فقد وجد نفسه في الشوارع بلا مأوى، مطاردًا من نفس الجهة التي كان يتصور أن انتماءه لها يحميه، ويمنحه الأمان والحصانة.. لقد أصبح طريدًا في مغامرة دموية، أكثر رعباً وغموضاً من تلك المغامرت التي يعمل على جمعها وتصنيفها، ليقدمها لرؤسائه في جهاز المخابرات، لكنه بعد الصدمة لم يستطع أن يتخلص سريعا من تصرف «الأبرياء/ السذج»، حتى وهو يواجه شياطين الشر والطمع!

(5)

يرجح الناقد الشهير هنري ميشيل أن المفارقة الدرامية التي تكشف تداعيات مواجهة البريء والأشرار، هي التي استهوت بولاك، فالموضوع الرئيسي عنده لم يكن بترول الشرق الأوسط، ولا مؤامرات المؤسسات الأمريكية الاستعمارية، وإنما كان موضوعه الرئيسي يتلخص في سؤال: كيف يتصرف «البريء/ الساذج» في مثل هذه الأزمات؟ إننا نرى فردًا عاديًا ساذجًا، تورط رغما عنه في أحداث تفوق قدراته ووعيه، فيهاجمه الخوف وتحاصره الشكوك، وهو يكتشف أن كل أوهامه القديمة تسقط تحت قدميه، فرؤساؤه لا يتورعون عن تدمير «النظام المستقر» الذي يتوجب عليهم حمايته، لذلك كان عليه أن يعتمد على ذاته وفقط، وعلى وعي فردي جديد خارج منظومة السلطة التي كان يتصور أنه جزء منها، ليتمكن من النجاة بنفسه، ولهذا قال مسؤول المخابرات الكبير في تفسيره لأسباب نجاة تيرنر، من كتيبة القتلة المحترفين التي تطارده: «إن السبب الحقيقي في نجاته، هو أنه تصرف بمنطق الهواة، فكان من الصعب على المحترفين تتبع تحركاته، ولا التنبؤ بتصرفاته»، فقد علمته المرأة التي أجبرها على مساعدته، طريقة أكثر واقعية في الدفاع عن حياته، وتتلخص في عدم الهروب، بل الهجوم العاقل بمبدأ «ضربة مقابل ضربة».

(6)

لقد أصبحوا الآن «يبرمجون» كل شيء في العالم: سياسة الدول، وحالة الطقس، لكنهم مازالوا عاجزين عن برمجة عواطف ومشاعر الناس، فهل يمكننا القول بعد كل هذه الهزائم: إن الرومانسيين (الأبرياء/ السذج) قد كسبوا المعركة أخيراً، بالرغم من كل الصدمات والخسائر؟

(7)

لن أجيب على السؤال، لأن إجابتي ستكون منحازة ورومانسية، فأنا واحد من (الأبرياء/ السذج)، لذلك سأكتفي بنقل إجابة ميشيل التي أوضح فيها أن الفيلم نفسه لم يجب على السؤال بكلمة: «نعم» لأن تيرنر، مثل سيدني بولاك (المخرج) لم يشعر بالانتصار الحاسم في نهاية المعركة، رغم أنه كشف الكثير من الفساد وفضح الكثير من المنحرفين الفاسدين، ومع ذلك لم يعتبر نفسه بطلاً، ولم يشعر حتى أنه مواطن صالح أكثر من غيره، فقط سقطت أمامه أقنعة الوهم الزائفة، وشعر (بوعيه الجديد) أنه واحد من الملايين الذين تؤلمهم الحال التي وصلت إليها بلادهم، لذلك يمكنكم المراهنة باطمئنان أن كل «بريء ساذج»: (تيرنر/ بولاك/ سبع الليل/ حضرتك) ولابد لكل بريء أن يقبل بدفع «الثمن الباهظ» مضاعفاً، لأنه تأخر في إدراك ذلك الشعور المرير بخديعة الاطمئنان لنظام تسيطر عليه «قوة متآمرة» تتصرف من دون مراقبة، وتحكم من دون محاسبة.

(8)

لذلك سأظل أقولها وأعمل من أجلها، مهما كان الثمن باهظاً:

#ارحل_يا_سيسي

التوقيع: مواطن بريء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه