اعلام جحا وابنته

محمد منير*

يحكى أن جحا أراد يسهل على قومه حساب أيام الصيام فى شهر رمضان، فأحضر وعاء وبدأ يرمى فيه حصوة عن كل يوم صيام يمر ، وحدث أن رأته ابنته يفعل ذلك ولم تكن تدرى السبب فأردت ان تجامل أبوها فوضعت فى الوعاء ما استطاعت جمعه من الحبوب .. ولما أراد جحا حساب أيام الصيام وجدها 120 حصوة فخشى من انتقاد أهل القرية واتهامه بالمبالغة، فابلغ قومه انها ستون يوما ولما سألوه منذ متى وشهر الصيام ستون يوما؟؟!!، قال لهم وهو منفعل لقد هوّنت عليكم فقد كانت 120 يوما ” .
 هذا حال عموم الاعلام و الحكومات الآن .. الاعلام يتماهى فى الحكومات ويبالغ فى التعبير عنها ربما بما يتجاوز حدودها، والحكومات تبرر وتفسر مافرضه الاعلام عليها، هكذا تحدث الحروب والنزاعات .
الاعلام يا سادة نشأ فى اصوله للتعبير عن ضمير أبناء الأمة ونقل حالهم وأمانيهم ومطالبهم لأصحاب القرار لضمان العدل والانصاف ، إلا انه وفى إطار التطور السلبى الذى يشهده العالم الحديث أصبحت روافده ومصارفه متعددة فمنها ما يعبر عن مصالح دول ومنه مايعبر عن مصالح حكام ومنها ما يعبر عن مصالح رجال أعمال . وندر بل وربما انعدم الاعلام المعبر عن مصالح الشعوب، وتحولت الرسالة الاعلامية من المطالبة بحقوق الشعوب الى التبرير والترويج لسياسات المصادر المتعددة من حكومات ودول وانظمة وجماعات ورجال مال، ولا عزاء للشعوب.

فى الأزمة المصرية القطرية الأخيرة تجاهل الاعلام عن عمد الفرق بين اختلاف السياسات ومواقف الحكومات، واختلاف الشعوب، فاختلاف السياسات بين صناع القرار لا يعنى بالضرورة نقل هذا الخلاف الى الشعوب وتحويله الى كراهية، ولكن فى ظل تحول دور الاعلام من التعبير عن ارادة الشعوب امام الحكومات الى تبرير رغبات الحكومات امام هذه الشعوب وفرض إرادة الحكام على وجدانها، اختلف الامر .
و فى التاريخ المصرى عبر، ومنها على سبيل المثال الحقبة الناصرية التى كان الشعب فيها مرتبط بنظامه الصاعد وطنياً ارتباطاً صريحاً، وحدث وخلال تفاصيل الجدل السياسى فى المنطقة أن أختلف الرئيس جمال عبد الناصر مع حكام السعودية والأردن ، وكان خلافا واضحاً عنيفاً، ورغم ذلك لم تفرض أى من الحكومات هذا الخلاف وهذه الحالة على الشعوب ولم يصدر الاعلام حالة الكراهية للشعوب، بل ظل الخلاف سياسياً غير متورطا بتأثيرات ولا مبالغات اعلامية تعقد اطرافه وتعرقل طريق الحل ، ولهذا سرعان ما وجدت هذه الخلافات طريقها للحل دون بذل أى جهد لتطبيع وجدان الشعوب الذى لم يتأثر بهذه الخلافات السياسية التى كانت كلها تشهد صعوداً وهبوطا فى اطار هدف الوحدة العربية .
الحال الآن معاكس فما أن تظهر بوادر خلاف بين النظم لسبب أو آخر، حتى يشحذ الاعلام الموجه اسلحته ويتصدر الجبهة معلنا الحرب على الشعوب التى يضعها فى المقدمة ، وينتقل الخلاف من أروقة السياسة الى شوارع البلدان لتتحول الى حروب ذات طابع عنصرى تلفها الكراهية والعنف فتتعقد اطراف المشاكل وتبعد عن أى امكانية للحل ، وتضطر الحكومات الى الانقياد وراء مبالغات اعلامها الذى يستهدف ارضائها بكل انتهازية بغض النظر عن مصالح الشعوب فيبرر ما لا يجب تبريره على طريقة جحا وابنته ، وتتعقد الامور .
لست ساذجا كى أتصور أن هذه الحالة وليدة الصدفة، أو درويشاً اراها قدراً من أقدار الله ولكنى بكل موضوعية أرى أن هناك مستفيداً من فرض حالة الاحتراب والفرقة بين الشعوب العربية مستخدماً الآلة الاعلامية فى هذه البلدان  بعد أن اخترقها وفرض عليها كل غث وعزل كل ثمين ، هذا المستفيد لا يظهر ابداً فى المشهد بل يظل قابعاً فى الظلام منتظر انهيار وحدة العرب للانقضاض النهائى علي دولهم   .
التفاصيل كثيرة ولكنها لا تدفعنا لليأس والانهيار طالماً هناك من يؤمن بالاعلام الشعبى المعبر عن ضمير الأمة ومن يبادر ويحرص على إزالة الخلاف ووقف الاحتراب بين الشعوب والدول العربية للحفاظ على أمن ووحدة العرب، وبكل وضوح اثمن المبادرة السعودية لإزالة الخلاف بين مصر وقطر بل بين مصر وأى من الشعوب العربية ، وإن لم يحدث ذلك ، فانبئكم بشر استعمارى مهول.

 _______________

*كاتب وصحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه