اختلال معادلة الأجور والأسعار بمصر

من النتائج السيئة لتجارب مصر الاقتصادية، أنها تطبق نماذج مشوهة من النظم الاقتصادية، وعندما أخذت مصر بنظام الاقتصاد الحر، فلم يتم تفعيله في كافة مناحي النشاط الاقتصادي.

وتغازل الحكومة المؤسسات الدولية تارة، ومرة تغازل المستثمرين الأجانب، ومرة تغازل رجال الأعمال المحظوظين والمقربين من السلطة في الداخل.

كما تم تجاهل قيم مصاحبة لنظام الاقتصاد الحر، مثل الديمقراطية والحرية، ودور حيوي لمؤسسات المجتمع المدني، والتي تعتبر الحركات والنقابات العمالية من أبرز محاورها، فتم تدجين النقابات العمالية وتفريغها من الدور المنوط بها بحماية حقوق العمال.

وبقى العامل المصري، يعيش متاهات اقتصادية واجتماعية، بين متطلباته الشخصية، ومتطلبات أسرته من تعليم وصحة، فضلًا عن أن تكون له حياة تتسم ببعض الشعور بالرفاهية أو برامج الترفيه، فهو بين خدمات حكومية متردية، أو قطاع  خاص يغالي في أسعار الخدمات المقدمة، ولا توجد جهة تضبط سلوك القطاع الخاص لتحديد هوامش ربح مقبولة، وأن تكون الأسعار مناسبة بالفعل مع مستوى الخدمة المقدمة للمواطنين.

ظلت قضية العلاقة بين الأجور والأسعار غائبة في المجتمع المصري، منذ أن تحولت مصر إلى نظام مختلط اقتصاديًا يسمح بمساحات أكبر للقطاع الخاص منذ منتصف السبعينيات، مع وجود الدولة كشريك في القطاع الإنتاجي والخدمي.

ثم الانفتاح الأكبر على اقتصاديات السوق في منتصف تسعينيات القرن العشرين، حيث تراجع دور الحكومة كرب عمل، وأصبح القطاع الخاص (الرسمي + غير الرسمي) هو المسئول الأول عن التوظيف. وحسب تقديرات لمسح للقوى العاملة في عام 2006 لمنتدى البحوث الاقتصادية، فإن القطاع الخاص المنظم يقوم بتوظيف 13% من الداخلين الجدد سنويًا لسوق العمل، وتقوم الحكومة باستيعاب 11% من هذه العمالة، بينما يقوم القطاع الخاص غير المنظم باستيعاب نحو 70%.

ومن هنا شهدت علاقات العمل اختلالًا كبيرا، تحت وطأة زيادة الداخلين الجدد لسوق العمل، وقلة المتاح من فرص العمل، وزيادة عدد العاطلين، مما جعل الاهتمام بقضية الأجور العادلة غير واردة لدى من يريد الالتحاق بسوق العمل، وبخاصة أن النقابات العمالية بل والمهنية مهمشة كشريك في إطار علاقة العمل التي تضم (الحكومة، وقطاع الأعمال، والنقابات العمالية).

توريط العمال

مع بداية تولي حكومة الانقلاب العسكري مقاليد الأمور برئاسة حازم الببلاوي، أُعلن عن تبني الحكومة لقرار تطبيق الحدين الأدنى والأعلى للأجور، على أن يكون الحد الأدنى للأجور 1200 جنيه مصري (نحو 66 دولارا بسعر الصرف الحالي)

، ولم يقبل القطاع الخاص الخضوع لهذا القرار، وأعلنت الحكومة عن التزامها، ولكن من خلال قرار حكومي وليس تشريعًا ينظم حق العاملين في الحد الأدنى لأجور محدد القيمة.

وكانت المفاجأة أن تخلت الحكومة عن تطبيق الحد الأعلى لفئات بعينها مثل القضاة وموظفي البنوك والجيش والشرطة، بعد أن حصل القضاة وموظفي البنوك على استثنائهم من هذا القرار بموجب أحكام قضائية. وفي هذه الوقت بدأت الحكومة في سلوك غريب تحت مسمى الإصلاح الاقتصادي، فتم تخفيض الدعم على الوقود بنسبة 25%، وكذلك تم رفع أسعار الغاز الطبيعي للبيوت وأسعار استهلاك المياه، والكهرباء، مما جعل الخبراء الاقتصاديين يصرحون بأن العمال سيندمون على ما قدمته لهم الحكومة من الحد الأدنى للأجور. وبالفعل يتمنى العمال بمصر الآن، لو عادت دخولهم والأسعار إلى ما كانت عليه قبل  يوليو 2013.

الحد الأدنى المناسب

مؤخرًا تناولت وسائل الإعلام الحوار الذي دار بين قائد الانقلاب العسكري بمصر وأحد نواب البرلمان، حيث طالب النائب بأن يتم تأجيل رفع أسعار الكهرباء لحين رفع الحد الأدنى للأجور إلى 3 آلاف جنيه، ولكن السيسي رفض المقترح، ووصفه بأنه غير مدروس.

والحقيقة أن الرقم مدروس بعناية، فخط فقر الدخل كما تحدده معايير البنك الدولي 1.25 دولار للفرد في اليوم، وإذا ما افترضنا أن عدد أفراد الأسرة 4 أفرد فقط (زوج وزوجة و2 من الأبناء) فإن متوسط الدخل المطلوب في اليوم لهذه الأسرة هو 5 دولارات، ووفق أسعار الصرف الرسمية، فإن الدخل الشهر للأسرة كحد أدنى هو 150 دولار، أي قرابة 2722.15 جنيه مصري (بسعر صرف 18.15 جنيه للدولار).

ولا أدرى لماذا استنكر السيسي على النائب الحديث عن حق العامل أو الفرد في حد أدنى للدخل؟ على الرغم من أن هذا حق تفرضه أمور كثيرة، أبسطها معيار البنك الدولي الذي أشرنا إليه. ولماذا يصر السيسي على الحديث عن التكلفة العالمية للخدمات التي يحصل عليها المواطن مثل الكهرباء والغاز الطبيعي؟ إن المعادلة ببساطة لها طرفان، الأول الأسعار والثاني الأجور، وإذا كان السيسي يرغب في أن تكون الأسعار وفق الواقع الدولي، فبالتالي لابد أن يقبل بأن تكون الأجور كذلك.

ومن المهم الإشارة إلى ملاحظة السيسي على كلام النائب، وسؤاله عن وجود دراسة لمقترح رفع الحد الأدنى للأجور، ونحن نسأله عن الدراسة التي بموجبها أهدر نحو 8 مليارات دولار في توسعة قناة السويس، حيث صرح هو بأن المشروع لم تكن له دراسة جدوى، وأنه أراد أن يرفع معنويات الشعب!!

حصول العمال على الحد الأدنى للأجور ليس لرفع معنوياتهم، ولكن حق نص عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، كما ورد في البند الثالث بالمادة 23 ( لكلِّ فرد يعمل حقٌّ في مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعي). فأين عمال مصر من هذه الحقوق؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه