“احنا بهايم يا ابني”!

أنوار أيوب سرحان

  )نيف أسرف) العاشق المصدوم بخيبة خسارة معشوقته، قرّر أن يستجديَ عطفها بتمثيليةٍ مسلية، حمل طعامًا وفراشًا واتفق مع صديقه على أداء مسرحية خطفه أو فقدانه. اختبأ ( نيف أسرف) بينما قام رفيقه بتنفيذ الاتفاق وإخبار الشرطة بأنّ نيف قد دخل الأراضي الفلسطينية القريبة من مستوطنة كريات أرباع، ولم يعد، وأنّه قد يكون مخطوفًا هناك. هكذا بدت كذبة أبريل لدى العاشق المأزوم نيف، والذي هبّت دولته بكلّ أجهزتها للبحث عنه. فخلال لحظاتٍ من تلقّي البلاغ كانت الدولة الإسرائيلية قد وقفت على ذيلها بكلّ أجهزتها، من سلاح الجوّ إلى فرق المشاة إلى الشرطة والوزارات،  وبدأت عمليات تمشيط واسعة، دفع ثمنها بالتأكيد أهالي المنطقة من ذاك الشعب الذي اعتاد دفعَ فواتير كلّ المغامرين في الكون.( أعني طبعًا الشعب الفلسطيني)، والذين عاشوا ساعاتٍ من العذاب تعرّضوا فيها إلى مداهمات جنود الاحتلال الباحثين عن “المخطوف الوهمي” !. بعد ساعاتٍ تكبّدت فيها دولة نيف أسرف ملايين الشواقل في عمليات البحث وتجنّدت فيها كل الأجهزة، قرر رفيقه إخبار الشرطة عن مكانه والاعترافَ بكون الحكاية كلها كذبةً مفبركةً متّفقًا عليها لاستدرار عطف الحبيبة .
هذه هي الصورة الأولى في الكولاج الذي سنتابع صوره في هذي المقالة فاذكروها جيدًا من فضلكم.

جثّة في بيتح تيكفا:
أحمد كيوان  فلسطينيّ من قرية مجد الكروم، مواطن في الدولة الإسرائيلية ككل الفلسطينيين على الأراضي المحتلة عام 48، ابن خمسين عامًا سافر إلى بيتح تكفا بحثُا عن لقمة المعيشة لأسرته بعد أن كان عاطلًا عن العمل لفترة من الزمن. لم يمضِ أسبوع على تواجد كيوان في عمله الجديد حتى عثر عليه مقتولا بطعنات وملقاة جثّته قرب محطة.
مضى ما يقارب الأسبوع دون أن تبلغ الشرطة أهل الضحية بمعلومات عن عملية التحقيق، فيما رجّح أهله أن القتل قد يكون على خلفية قومية، وأنّ ما يسمى جماعات “تدفيع الثمن” قد تكون المسؤولة عن عملية القتل . بعد أيام من القتل، تذكر الناطقة بلسان الشرطة اعتقال شابين يشتبه بضلوعهما في الجريمة.
القيادات العربية في الداخل، تبدو ليست بحاجة لقضية تتسلق عليها في ظل تواجد قضايا كثيرة أخرى، فلا نشهد أي تحرك سوى من عضوين في البرلمان الإسرائيلي، نجد خبرا من مكتبيهما منشورا للإعلام، بأنهما أبرقا إلى وزير الأمن الداخلي لتسريع التحقيق في القضية.
يموت العربي حقًا لا تمثيلًا ولا يجد حتى البواكي .. هذه هي الصورة الثانية في كولاجنا لهذا اليوم..

 شهيد أو قتيل
في اليمن، كما في سوريا، كما في العراق، كما في ليبيا، نقرأ ونسمع ونتابع عبر الإعلام أعدادًا هائلة ممن يموتون يوميًّا ويُقتلون في حروب تشتعل على امتداد الوطن العربيّ، يستحيل فيها الإنسان مجرّد رقم في خبر، يتناقله مشجعو الفرق المتحاربة إما بالتهليل لإحدى الفرق أو بالشتم لأخرى.
يموت أهالي اليمن ونحن نتقاتل : هل الحوثيون على حقّ أم من أعلنوا الحرب عليهم؟!  يُذبح أهالي مخيم اليرموك ونحن نشتم بعضنا إذ ننقسم لفريقين في اختلافنا حول السؤال: هل النظام من يقتلهم أم داعش؟!
لا نكاد نسمع أيّ سؤال حول الأطفال الذين يموتون، حول الأمهات الثكلى، حول الأسر التي فقدت أفرادها، حول أحلام طفلٍ وئدت، حول شابّ كان يحلم أن يعيش…
يبدو الإنسان العربي غير موجود أصلا كإنسان، وكأنما الموت هو مصيره المحتوم الذي خُلق لأجله في سبيل انتصار فريق أو خصمه. تتضاءل قيمة الإنسان وسط عدّه كرقم في أخبار تمجّد فريقًا ضد فريق، ولا تذكر ذاك الإنسان الذي لم يكن له ذنب في الكون سوى أنه ولد عربيًّا.
حسنًا هي الصورة الثالثة..

والآن إلى الصورة الأهم التي لعلها تلخّصنا جميعًا:
على مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) تناقل الآلاف شريطًا لأناس قيل إنهم من صعيد مصر، حمل الشريط دعوةً مستنفِرة للمسلمين “أغيثوا إخوانكم في صعيد مصر، إنهم لا يعرفون الفاتحة”. هكذا جاء العنوان لنجد أنفسنا في الشريط أمام فئةٍ من البشر المساكين البائسين، على وجوههم ملامح الانكسار والذلّ. تظهر في الشريط نساء محجبات يسألهن مذيع عن الفاتحة فترتبك إحداهن وتتلعثم، يسأل إن كانت تصلي فتنفي إحداهنّ، وتقول الثانية إنها تصلي خلف من تجيد القراءة.  ثم يظهر رجال يسأل المذيع أحدهم “النبي محمد اسمه إيه” فيجيب :”والله مش خابر”..  سؤال يتكرر بصيغة واضحة لم ينجح معها من يستعرضهم الشريط حتى في أبسط مهام فهم المسموع. ثمّ تصفعنا عبارةٌ تأتي على لسان عجوز هناك إذ تجيبه في استنكارٍ لسؤاله: “داحنا بهايهم يا ابني”. عبارة تقول ألف مجلّد . فإذا كان الإنسان مؤمنًا بكونه مجرد بهيمة، فعلامَ نعوّل إذن؟؟؟
وهل المهم أن يجيد هؤلاء قراءة الفاتحة ومعرفة اسم النبيّ وهم أصلًا لا يعرفون أنهم بشر وأن لهم قيمةً ؟؟؟ ما حاجة المرء إلى دينٍ يوصله إلى الله ما دام لم يصل أصلًا إلى أدنى حدود إنسانيته؟ يبدو عنوان الشريط موجعًا أكثر بكثير من مضمونه القاتل. فإذا كنا لم نأبه لاحتقار هؤلاء لذواتهم، وللجهل المدقع الذي يحتلّهم، وهمّنا فقط جهلهم بالدين، (والدعوة التي من الواضح أنها سياسية)،  فتلك هي الكارثة الحقيقية.

بعينٍ أخرى :
دعونا الآن نحاول أن نكون محايدين قليلًا، وأن ننظر إلى الصور المعروضة في الكولاج بعيونٍ تسعى أن ترى من زاوية أخرى، غير ما تسارع إليه أفكارنا المسبقة وقناعاتنا الموروثة. لو تناسينا قليلًا ما تمثّله إسرائيل كدولة احتلال وتابعنا فقط اهتمامها بمواطنها، فسنشعر بالغيرة الموجعة.  سنرى أوّلًا أنّ المواطن اليهودي الإسرائيليّ يعني لدولته قيمةً تستدعي أن تقف الدولة رأسًا على عقب كي تحميه،  بينما يولد العربيّ في انتظار الموت إما لأجل وطن أو دين، يحيلانه إلى رقم من أرقام الموتى الذين لا يجدون من يبكيهم، بل جلّ ما يحلمون به أن يجدوا من يعدّهم. ذاك أن العدّ يختلف كثيرًا بين من يروي الخبر انتصارًا لفريق أو لسواه.
ترنّ عبارة تلك العجوز لاذعةً، صافعةً موجعةً لكلّ من حمل في أعماقه بعضًا ولو ضئيلًا من الإنسانية واحترام الذات وآمن بأنّ الحرية تبدأ من الإنسان : فإلى متى نظلّ نولد فداءً لوطن أو دين يفترض أساسًا أنهما وُجدا لأجل الإنسان؟! وهل يمكن أن نطالِب أحدًا باحترامنا ما دمنا نرى أنفسنا بهذا الرخص؟ كيف يمكن أن يقدّرنا الآخر إن كنّا نرسّخ ضآلةَ قيمتنا؟! وكيف يتحرر وطنٌ ما دام الإنسان فيه يولد وينشأ على كونه مجرّد هامشٍ لا يساوي شيئًا؟
سؤال يلخّص كل توارثنا للموت، ويهددنا بأننا سنظلّ مجرد أرقام من القتلى ما دمنا لا نقدس الإنسان، ولا نؤمن بأنّ كل ما في هذا الكون يفقد قيمته ما دام لا يضع الإنسان في أعلى سلّم أولوياته، فهل يأتي يومٌ نحترم فيه أنفسنا وأبناءنا والحياة الكريمة، وننشئ أطفالنا أنّ إنسانيّتهم هي الدين وهي الوطن وهي أعلى ما يعنينا لعلّنا نخرج من هذا القاع الموحل؟!

____________

*كاتبة من الجليل

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه