احترام القضاة بين الحق والفرض

محمد منير*

 

إحترام القضاء والقضاة ..إحترام الكبير …إحترام العلماء ، قيم فرضها علينا الواقع وتقبلناها بقبول حسن دون أن نسأل عن السبب أو الدليل ، إلا أن الواقع دائما يصر على دفع عقولنا للتفكير ، هل إحترام الكبير هو سلوك مطلق حتى لوكان هذا الكبير فاسداً أو منحرفاً ، وهل إحترام العالم الفاشل أو المغرض واجب ، وماذا عن الموقف من قاض غير عادل؟ .. أسئلة فرضها علينا الواقع وداهمتنى فى الفترة الأخيرة.
لقد رفع المولى سبحانه وتعالى من شأن القاضى بين الناس فيقول فى محكم كتابه : ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل” – النساء 58، فالقاضى يحكم بأمر له ويستمد عدله من أمر الله وتعاليمه ، وأى خطأ فى حكمه هو مخالفة للمولى سبحانه وتعالى ،وفى المقابل يكون للقاض العادل مكانة رفيعة مشروطة بالعدل وقول الحق فيقول صلى الله عليه وسلم: “إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا”.
ومع الاعتياد الذى فرضه الزمن ودعمته انهيارات القيم أصبح منصب القاضى يشهد اقبالاً كثيرا لما فيه من تبجيل وامتيازات دنيوية دون ادراك المتهافت المسئولية امام الله سبحانه وتعالى ، وذلك على عكس السلف الصالح الذى كان يخشى تولى منصب القاضى خشية اغضاب المولى ولو بالخطأ ، ولهذا فإن التاريخ يشهد روايات عن قضاة قدموا أمر الله على أى اعتبارات دنيوية وقبضوا الحق حتى لو كان مثل قطعة الجمر.
وقبل الروايات التاريخية عن تقديس السلف الصالح لمهمة القضاء بين الناس انوه الى القاضى الذى اصدر الحكم على الناشط الشاب أحمد دومة بالسجن 25 عاماً وتغريمه 17.5مليون جنيه لاتهامة بحرق مجلس الوزراء والمجمع العلمى  .. هذا القاضى نفسه هو الذى حكم على دكتور بالسجن 3 سنوات فى جلسة استغرقت 4 دقائق تم فيها التحقيق والاحالة والدفاع والحكم، وذلك بعد أن وجهت المحكمة للمحبوس تهمة سب الضابط المنوط به حراسته ، هذا القاضى فى نفس يوم اصداره الحكم على ” دومة ” خالف الأعراف القضائية وظهر فى برنامج مع الاعلامى الحكومى أحمد موسى يسب فيه المحكوم بحقه ويتهمة بالسرقة !!
 واستند القاضى على أن ” دومة اعترف امام الاعلام بأنه حرق المجمع العلمى ومجلس الوزراء ، بينما كل التسجيلات التليفزيونية تؤكد ان دومة نفى قيامه بهذا وانه قام بالدفاع عن نفسه وعن زملاءة المتظاهرين ضد القوات الشرطية التى كانت تضربهم بالرصاص وكانت متمركزة فى هذه الأماكن حتى انه قال لفظاً ” أنا مش مجنون عشان أحرق المجمع العلمى ومجلس الوزراء ” ، لكن القاضى على طريقة ” التعلق بالحبال الدائبة ” ، تصيد عبارة ” لقد واجهنا القوات التى تضربنا بالرصاص بالمولوتوف ” ، وبنى عليه حكمه !!! ، هو نفس القاضى الذى صرح اعلامياً بأن  مصر تحتاج أحكاماً رادعة للحفاظ على الدولة، وبذلك تحول من قاض بين الدولة ومعارضيها الى قاض لدى الدولة ضد معارضيها .
لنعد الى روايات السلف الصالح لعلها تكون عبرة لمن بقى لديه ولو ذرة من ضمير.
من هذه الروايات مادار بين أمير المؤمنين “على بن ابى طالب” وشريح قاضى القضاه عندما لجأ “على” اليه ليقضى بينه وبين يهودى سرق درعه ، فقال له ” شريح ” ، والله انى لمتأكد انك صادق ولكن لابد لك من شاهدين ، فقدم “على” شاهدين بينهما ابنه ” الحسن ” ، فرفض القاضى شهادة “الحسن” لأنه ابن “على” ولا تجوز شهادته ، فذكره” على ” بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” الحسن والحسين سيدا أهل الجنة “. فقال شريح ” بلى يا أمير المؤمنين ، غير أنى لا أجيز شهادة الولد لوالده” . وحكم لليهودى ، لولا اعتراف اليهودى بملكية “علي” للدرع بعد تأثره بالموقف .
 والشاهد أن القاضى حكم بمعايير العدل دون ومراعاة لمكانة أمير المؤمنين فى الدنيا وقدم هيبة العدل وأمر الله على هيبة الحاكم .
يذكر أن الخليفة ابو جعفر المنصور تدخل فى خلاف ينظر أمام “سوار بن عبد الله” قاضى البصرة ، وكان الخلاف بين قائد من قواد الخليفة وتاجر حول أرض ، وطلب الخليفة من القاضى ان يحكم بملكية الأرض للقائد ، وكتب للقاضى أمرا قال فيه  ” الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد” ، وبحث القاضى القضية وتوصل الى أن الأرض من حق التاجر فكتب للخليفة ” والله الذي لا إله إلا هو، لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق” ، فلما وصل كتابه إلى المنصور قال: “ملأتها والله عدلاً، فصار قضاتي تردني إلى الحق” .
 الشاهد أن أحكام القضاة وعدلهم المستمد من تعاليم المولى سبحانه وتعالى كانت ملزمة حتى للحكام المدركين لقدسية أمر الله مثل الخليفة “المنصور” ، أما غير المدركين فأدعوا لهم بلطف الله .
ليتذكر كل حاكم فى قصره وكل قاضى يجلس امام ميزان العدل قول الله تعالى ” تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ” – القصص 83
    ____________________

*كاتب وصحفي مصري 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه