ابن سلمان ومأساة التنمية الخطابية

منذ استقلال الدول العربية في منتصف القرن العشرين، لم يجن مواطنوها سوى خطاب تنموي بعيد عن الواقع، وتمضي الحكومة تلو الأخرى، والرئيس تلو الرئيس، ويبقى المواطن العربي ما بين الفقر والبطالة والفساد، حتى أصبح منتهى حلمه بطاقة التموين، ثم أتت برامج صندوق النقد الدولي في الألفية الثالثة لتقضي على ما تبقى من حلم بطاقة التموين، وتعلن أن الدعم بكافة أنواعه شر لابد أن تتخلص منه الحكومات العربية.

لقد دغدغ الزعماء العرب مشاعر مواطنيهم بحلم التعاون الاقتصادي العربي، وكذلك انطلاق الاقتصاديات القُطرية لتودع مراكب التخلف، ولكن بعد مرور أكثر من سبعة عقود، لم يجد المواطن سوى السراب. ماتت أجيال حُلمت بالوحدة الاقتصادية العربية، وبقيت أجيال ليس لديها سوى حلم الهجرة خارج المنطقة العربية.

ومؤخرًا شهدت مدينة الرياض، مؤتمر الاستثمار المنعقد خلال الفترة 23 – 25 من أكتوبر/تشرين الأول 2018، والذي ولد ميتًا، على إثر الجريمة التي ارتكبت بحق الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث قُتل غيلة بالقنصلية السعودية في اسطنبول بتركيا، من قبل رجال المخابرات السعودية، ووسط اتهامات قوية بأن العملية نُفذت بأوامر من سلطات عليا في المملكة. ولذلك انسحب كبار المسؤولين من دول مختلفة على مستوى العالم من أعمال المؤتمر، وكذلك فعل مسؤولو شركات عالمية كبرى.

وهم التنمية

تحليل مضمون كلمة ولي العهد السعودي، والتي ألقاها ثاني أيام المؤتمر، أتت لتصب في إطار خطاب عاطفي، متناسيًا الواقع الأليم الذي تعيشه اقتصاديات المنطقة، فهو يرى أن اقتصاد بلاده يحقق نجاحات غير مسبوقة، بينما من يعانون الفقر في السعودية وتقدموا لطلب الدعم الحكومي بعد الإجراءات التقشفية بلغت نسبتهم 63% من إجمالي السكان السعوديين.

 كما أن معدلات الفساد بالسعودية منذ ثلاث سنوات في تصاعد مستمر، على الرغم من إعلان ولي العهد بأنه يكافح الفساد، فبيانات منظمة الشفافية الدولية تظهر بأن معدلات الفساد ارتفعت في عام 2017، حيث حصلت السعودية على 49 درجة من درجات المؤشر الـ 100، بينما كانت السعودية في عام 2015 قد حصلت على 52 درجة على سلم درجات المؤشر، أي أن الشفافية تراجعت في عام 2017 بنحو 3 درجات. كما أن المملكة أتت في المرتبة 57 من بين 180 دولة شملها المؤشر في 2017.

وعلى ما يبدو أن ابن سلمان أراد أن ينسى فشل مشروعه، والذي يهدف إلى تنوع الاقتصاد السعودي وتخفيف حدة اعتمادة على عوائد النفط، بينما تشير أرقام وزارة المالية السعودية إلى أن الزيادة المتحققة في الإيرادات العامة، أتت بشكل كبير عبر الزيادة التي شهدتها أسعار النفط بالسوق الدولية.

أيضًا أشار ابن سلمان في كلمته إلى معدلات التحسن في اقتصاديات دول عربية أخرى، من حيث زيادة معدلات النمو، والتقدم على مؤشر التنافسية، في مصر والإمارات وقطر، وحلمه بتحقيق تحسن في لبنان، وأن أوربا الجديدة هي الشرق الأوسط. في حين أن اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط تعاني النزاعات وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وكذلك العقوبات الاقتصادية في السودان وتركيا وإيران.

لقد نسى ابن سلمان أن يشير إلى دوره في تخريب اقتصاد اليمن، وتبديد موارد المنطقة في الحروب والنزاعات المسلحة، أو دهاليز الكيد السياسي عبر المشروعات التحتية، والتي تستهدف دول مستقرة مثل تركيا.

والناظر في واقع التنمية بالمنطقة العربية، يجد أن ما يطرحه ابن سلمان وغيره من القادة العرب، لا يعدو أن يكون أكثر من “تنمية خطابية” تكرس لبقاء المنطقة مجرد مخزن للمواد الأولية، أو في أحسن الأحوال منتجة للسلع الأولية، أو مستودع للصناعات الملوثة للبيئة، على الرغم من أن مؤتمر الرياض اتخذ من التكنولوجيا الرقمية عنوانًا رئيسًا له.

كما أن الترويج الإعلامي للمؤتمر سوق مسمى “دافوس الصحراء”، ولو كان هناك ثمة إدراك لهذا الاسم، لتمت مراجعته وفق ما أصاب اقتصاديات المنطقة من دمار منذ وطأت قدم “منتدى دافوس العالمي” منطقة الشرق الأوسط في عام 1996.

حيث نظم منتدى دافوس للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في القاهرة. فبعد نحو أكثر من عقدين من الزمن ماذا أضاف دافوس لمنطقة الشرق الأوسط؟ لقد استضافته الأردن غير مرة، وما تغير في اقتصادها شئ، إذ لا تزال تعيش على القروض والمساعدات، وكذلك المغرب التي تدور في حلقة مفرغة من التيه الاقتصادي.

وعلى ما يبدو أن ابن سلمان استحضر الخبرة العربية في تسويق التنمية الخطابية، إذ كان الرؤساء العرب يقدمون بعض المساعدات الموسمية، ويرسخون لمبدأ “الولاء مقابل العطاء” لعدم خضوهم للمساءلة أمام الشعوب، فعمد ابن سلمان قبل مؤتمره للاستثمار في الرياض بالإعلان عن صرف العلاوة السنوية للعاملين بالدولة وبأثر رجعي، ليتسنى له إلهاء المجتمع السعودية عن جريمة قتل الصحفي جمال خاشوشقي، وكذلك الترويج لمشروعه التنموي الذي لا يتجاوز كونه مجرد خطاب عاطفي، لا يجد له المواطنون أثرًا على أرض الواقع.

تكرار ممل

لم يخرج مؤتمر ابن سلمان في الرياض عن تكرار النموذج الفاشل نفسه لمؤتمر شرم الشيخ في مصر، أو مؤتمر الاستثمر في تونس، وغيرها من الدول العربية. وإذا قدر لابن سلمان البقاء في السلطة، هل يمكنه أن يقدم كشف حساب بعد عام من الآن، لمعرفة التكلفة والعائد، حتى لا يكون مجرد حلقة في مسلسل الترويج الدولي له، على حساب مستوى معيشة المواطن السعودي، الذي تزداد معاناته يومًا بعد يوم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه