إغواء السلطة ولعنتها على الطغاة

خلال 11 عاماً رحل ثلاثة حكام عرب بشكل درامي، صدام حسين أُعدم شنقاً بموافقة الأمريكان، وإصرار الحكام الجدد الطائفيين الذين دخلوا العراق بعد احتلاله عام 2003على ظهر الدبابات الأمريكية، كان ذلك ليلة عيد الأضحى 30 ديسمبر 2006 في توقيت فتنة مُدّبر.

 رصاصة القذافي وصالح

انتهى القذافي في ليبيا 20 أكتوبر 2011 قتيلاً برصاصة على مشارف مدينة “سرت” مسقط رأسه، وآخر حصونه، وبعدها سقط نظامه في أيدي الثورة التي تعسّكرت، ونالت دعماً من حلف الأطلسي.

وثالثهم الرئيس اليمني المخلوع عبدالله علي صالح الذي رحل قبل أيام في 4 ديسمبر 2017 قتيلاً برصاصة من “الحوثي” حيث كان في طريقه للانقلاب على حليف الحرب، والتوجه للسعودية للتحالف معها مجدداً، و”الحوثي” عدو صالح السابق، ثم حليفه في الانقلاب على شرعية النظام الجديد برئاسة منصور هادي، لكن صالح لم يكن ماهراً بما يكفي هذه المرة وهو يرقص على رؤوس الثعابين فجاءته اللدغة القاتلة، وكان الوحيد من بين قادة دول الربيع العربي الذي خرج من الحكم باتفاق كريم، لكن عشق السلطة جعله يتآمر للعودة إليها، ولو بتدمير اليمن، وهو ما حدث فعلاً، ثم كانت نهايته الدموية.

هاربون ومسجونون

في فترة الـ 11 عاماً نفسها تعرض حكام آخرون لمصير بائس، فقد هرب زين العابدين بن علي إلى السعودية بعد أن أسقطته أولى ثورات الربيع العربي في تونس البلد الوحيد الذي نجا إلى حد ما حتى الآن مما جرى في البلدان الأخرى من انتكاسات.

وفي مصر ثاني دول الربيع دخل السجن رئيسان، مبارك الذي أطاحت به الثورة، ومحمد مرسي أول رئيس منتخب بعد الثورة، والذي ينتمي إلى جماعة الإخوان. مبارك الذي حكم مصر 30 عاماً تمت تبرئته في القضية الكبرى “قتل الثوار”، وفي قضايا فساد أخرى، وحُكم عليه في قضية فساد وحيدة تُعرف باسم “القصور الرئاسية”  بـ 3 سنوات سجناً، وقد قضى كل فترات سجنه في غرف مميزة بالمستشفيات باعتباره مريضاً، أما مرسي الذي قضى عاماً واحداً فقط في الرئاسة، محكوم بالسجن 45 عاماً حتى اليوم يقضيها معزولاً عن العالم، لا أحد يعرف شيئاً عن ظروفه في محبسه، وقد اشتكى من عدم السماح لأسرته بزيارته منذ ثلاث سنوات، أو لقاء محاميه، وخلال محاكماته يكون معزولاً أيضاً في قفص زجاجي مانع للصوت لم يحدث مع مبارك.

جزار سوريا

وفي سوريا خامس بلدان الربيع التي تحولت إلى أبشع مجزرة في تاريخ المنطقة، لو لم تتدخل إيران وأذرعها العسكرية مبكراً إلى جانب بشار الأسد، ثم روسيا بكل ثقلها لاحقاً عندما كان على وشك السقوط لكان اليوم إما هارباً في طهران أو موسكو، أو سجيناً في دمشق، أو قتيلاً تحت التراب.

هؤلاء الحكام لم يكونوا منتخبين، وأنظمتهم لا تعرف معنى الديمقراطية، ولا تداول السلطة، ولا تفكر أو تقبل مثل هذه الأشياء، باستثناء مرسي الذي كان منتخباً بنزاهة، وفي بيئة تنافسية حقيقية، لكن أضرته الحسابات السياسية غير الحكيمة لجماعته، ولو لم يكن حكام الاستبداد المتأصل متشبثين بالسلطة، مهما جرت الدماء أنهاراً كما في سوريا، لما كان مصيرهم المشنقة، أو الرصاصة، أو الهرب خارج بلدانهم، أو السجن، أو التصنيف ضمن مجرمي الحرب، ومن حيث يكون إغواء السلطة تكون لعنتها على الطغاة.

الانقلابات العربية

وفي نظرة على المنطقة العربية من محيطها إلى خليجها سنجد سمتها الأساسي هو الانقلابات العسكرية المباشرة، أو غير المباشرة، أو الانقلابات داخل الأنظمة نفسها فيما يسمى انقلاب القصر. وقد تأسست الدول الوطنية الحديثة على الانقلابات التي هي بطبيعتها تعادي الديمقراطية، وبالتالي لم يكن مطروحاً تماماً فكرة الحكم المدني الدستوري، وتداول السلطة من رئيس إلى آخر، أو من حزب إلى آخر عبر الانتخابات، وسوريا مثلاً شهدت نحو سبعة انقلابات خلال 21 عاماً من عام 1949 حتى عام 1970، ولما أراد حافظ الأسد آخر انقلابي أن يضع حداً لهذا الأمر العجيب فإنه أمم الدولة تماماً لصالحه وعائلته، وبنى حكماً قمعيا ستالينياً، وكان الرد الطبيعي على تلك الحالة من الطغيان أن الانتفاضة السلمية عندما تحولت إلى مسلحة ضد حكم وريثه بشار فإنها أخذت معها الأخضر واليابس، والدماء لم تتوقف منذ ما يقرب من سبع سنوات، ولم يبق شيء من سوريا يحكمه الأسد الابن إذا استمر في قصر المهاجرين.

العرب والأفارقة هم الأكثر اقترافاً لجريمة الحكم القسري، وحيازة السلطة بالقوة، والبقاء فيها بقبضة من الحديد والنار، والضحايا بلا حصر، وأول القائمة أولئك الذين يتم الإطاحة بهم، ثم الاستدارة إلى شركاء التغيير حيث يعلم كل انقلابي وهو في أول أطوار الطغيان الدموي أنه إذا لم يفترس الآخرين أولاً فإنه سيكون عرضة للافتراس لا محالة، هكذا حصل في كل البلدان العربية بأشكال مختلفة تتدرج من الاعدامات، والتصفيات، والسجن حتى التعفن فيه، إلى التشريد، والطرد خارج الأوطان.

نظم ونخب مستبدة فاسدة

كيف يكون للديمقراطية بيئة صالحة وهواء منعش لها في بلدان كهذه تتصارع مراكز القوى ومؤسسات القوة فيها على قصر الحكم، وإسكات الشعوب، وتحويلها إلى قطيع، والنخب التي تنتجها لا تقل فساداً وعدوانيةً عنها تجاه أي دعوات نحو الحريات والتحرر، والنخب التي خرجت عن الصف وتبنت قضية التحول الديمقراطي عندما وُضعت في قلب التجربة العملية، وتحت الاختبار الجدي بعد الربيع العربي ثبت أنها لا تفتقر للخبرة السياسية، ولا تؤمن بالحوار فقط، إنما كل ضجيجها عن الديمقراطية والحياة المدنية كان مجرد شعارات جوفاء بلا أي مضمون، وبالتالي كان الفشل المريع لها وللثورات، وكانت الدماء هي النتيجة الطبيعية لأنظمة وبلدان وعقليات ونخب وتاريخ وتراث لا يعرف في حسم القضايا غير قبضة اليد، وعضلات الجسد، وإقصاء الخصم بالقوة المفرطة.

تخلف سياسي وعقل متحجر

هكذا الانقلابات سواء كانت حمراء أم بيضاء، وهكذا الطغاة سواء كانوا سافرين أم مقنعين في كل بلد يسقط في دوائر التخلف السياسي، وتحجر العقل، وظلامية الفكر، لا دولة قانون، لا احترام للدستور، لا مبادئ سياسة، لا حوار لحل الخلافات على الطاولة، لا قيم أو أخلاقيات، وهذه وغيرها من أمراضنا العضال التي تستفحل نتيجة غياب النظام الديمقراطي القادر وحده على حسم أعقد التناقضات في أي مجتمع.

لا تعاطف مع الطغاة، فهم لا يتعاطفون مع شعوبهم، ولا يرحمون مواطنيهم حيث يسومونهم سوء العذاب، وعندما يغادرون قسراً أو قتلاً أو موتاً فإنهم يتركون وراءهم عقماً سياسياً، وبيئات مقفرة تعادي الحريات وحقوق الإنسان وكرامة وإرادة الشعوب، وهذا هو المناخ المثالي لاشتعال الأزمات والصراعات والحروب التي تجلب دماراً شاملاً، وتنشئ طغاةً جدداً أشد دمويةً من سابقيهم، والخريطة العربية شاهدة على ذلك، خريطة دسمة بكل ما هو سيء.

العالم الحر وحكامه الآمنين

إذا نظرنا للعالم الحر خلال نفس الأعوام الـ 11،  لن نجد انقلاباً واحداً لسرقة السلطة، إنما وسيلة التغيير الوحيدة هي صندوق الانتخابات فقط، كما لن نجد قتلاً، أو تصفيات، أو زجاً في السجون أو تشريداً للخلاص من الشركاء أو الخصوم السياسيين، النظام الديمقراطي، ودولة القانون مقدسان، حتى في الكيان الصهيوني يكون التغيير ديمقراطياً، والانتقام السياسي مستبعد، والمحاسبة وفق القانون، لذلك تبقى أقوى من العرب بفضل ذلك المسار قبل أي دعم خارجي.

في الغرب عشرات الحكام السابقين على قيد الحياة يعيشون آمنين مطمئنين، يختلطون بالناس، ويتسوقون، ويذهبون للمطاعم، ويعتنون بحدائق منازلهم، ويتفاعلون مع جيرانهم، عادوا مواطنين عاديين، وعندما يرحلون يكون ذلك طبيعياً لائقاً بهم وبالديمقراطية التي أفرزتهم.

الخراب العام

غياب الديمقراطية لا يقصي دولنا من قائمة العالم الحر المتحضر فقط، إنما يجعلها بيئة خصبة للفقر والفساد والتطرف والخراب العام، ويجعل نهاية حكامها مأساوياً مهيناً فهم إما معلقين على أعواد المشانق، أو قتلى، أو هاربين خارج بلدانهم، أو قابعين في السجون، ومن في السلطة يعيشون داخل حصون، وفي عزلة عن شعوبهم.

ما هو المفيد إذاً في مثل هذا النوع من الحكم؟، ما هو الممتع والجميل فيه حتى يتكالبون عليه، ويُصفون بعضهم بعضاً في سبيله، ويسحقون شعوبهم، ويدمرون بلدانهم من أجله؟.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه