إغواء الديكتاتور!!

الرئيس السوري بشار الأسد

“لم أقل بوضوح إن إزاحة الأسد تشكل شرطا مسبقا لكل شيء، لأن أحدا لم يقدم لي خليفته الشرعي”، هذه العبارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قالها في حوار له مع ثماني صحف أوربية.

إذاً، فرنسا ماكرون لم تعد تعتبر رحيل الأسد شرطا لحل الأزمة، وانتهاء الحرب المدمرة في سوريا، بوضوح فرنسا تقبل ببقاء الأسد في السلطة لأن أحدا لم يقدم لرئيسها الشاب الخليفة الشرعي.

ماكرون، الذي لا ينتمي لأي تيار سياسي في اليمين أو اليسار، ظهر كحالة جديدة خارج معسكرات الأحزاب التقليدية، فخلب ألباب الفرنسيين المتطلعين للتجديد فاختاروه رئيسا، ثم منحوه تفويضا آخر بفوز حزبه الجديد بالأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية “البرلمان”، كان غير واضحا في كلامه، ومن يقصد بالخليفة الشرعي للأسد، أو البديل للأسد؟، هل يقصد من داخل النظام مثلا، أم يقصد من المعارضة؟

وقد كتب خالد خوجة، أحد قادة المعارضة على تويتر قائلا: “هذه التصريحات مفاجئة، ففرنسا كانت ضمن أربع دول فقط من كل مجموعة نواة الأصدقاء إلى جانب بريطانيا وتركيا وقطر داعمة لرحيل بشار الكيماوي”.

كما كتب المعارض أحمد رمضان على تويتر أيضا: “عار على فرنسا أن لا يرى رئيسها إيمانويل ماكرون بشار عدوا لها أو للبشرية”. وفي باريس، رفض سفير المعارضة منذر ماخوس التعليق قبل فهم المعنى الدقيق لما قاله ماكرون.

طلقة ماكرون المفاجئة قد تمثل تغييرا في السياسة الفرنسية تجاه الأزمة في سوريا، والأسد خصوصا، فخلال حكم الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا أولاند كان الموقف الفرنسي شديد الوضوح ولا يقبل التأويل وهو رفض الأسد واعتباره فاقدا للشرعية وضرورة رحيله، وظل الموقف الفرنسي هو الأكثر صراحة في الغرب وبين دول أصدقاء الشعب السوري.

وكانت المعارضة تستند بشكل كبير أوربيا وفي الغرب على قصر الإليزيه ودعمه السياسي لها، وباريس هي واحدة من عاصمتين فقط في العالم فتحت سفارة للمعارضة (الدوحة هي العاصمة الأخرى).

الثوابت

هناك ثوابت سياسية في الدول الديمقراطية في القضايا الكبرى لا تتغير بسرعة، وأي تحول يطرأ عليها فإنه يكون وفق حسابات دقيقة ودون أن يمثل حالة انقلابية كاملة، لكن ماكرون في موقفه الذي يقرره اليوم بشأن سوريا فإنه يحدث ما يشبه الانقلاب الفعلي تجاه سياسة بلاده إزاء الحالة السورية.

هل جاء ماكرون ليطيح بكل سياسات سلفه أولاند في إطار أفكاره لفرنسا الجديدة التي يريد تجديد شبابها وبها اكتسب تعاطف وتأييد الناخبين مثلما يحاول ترمب فعله في أمريكا حيث يسير في اتجاه مضاد لكل سياسات أوباما بلا استثناء في الداخل وفي الخارج؟

إذا كانت الديمقراطية في أمريكا تقاوم ترمب وتقف له بالمرصاد وتناوئه وتحجم ظهور التسلط بداخله وتحافظ على أمريكا كدولة مؤسسات ديمقراطية لا تسقط في هوة حماقات رئيس تاجر، فإننا سنرى كيف سيكون موقف المؤسسات في فرنسا من التوجه الجديد لرئيس شاب تجاه واحدة من القضايا الأساسية للسياسة الخارجية الفرنسية خلال السنوات الست الماضية، أي عمر الأزمة في سوريا التي باتت دماء وأطلالا.

دائما في بلدان الاستبداد يجري الحديث عن غياب البديل لتسويغ بقاء المستبد، وبقاء نظام القمع للمعارضات والشعوب، وهذه أكذوبة يستحق من يروجها أن يُحاكم لأنه يستحيل ألا يُوجد شخص واحد من بين ملايين المواطنين يصلح أن يكون حاكما عادلا ورشيدا وديمقراطيا.

هل الشعب السوري مصاب بالعقم حتى لا ينجب غير بشار الأسد، ليكون رئيسا بالوراثة ويظل باقيا حتى لو لم يبق من سوريا مواطنا واحدا ولا حجرا واحدا؟، هذا سفه، فالشعب السوري، وأي شعب منكوب بداء الاستبداد حتما لديه الألوف من العقول القادرة على الحكم والإدارة أفضل من تلك الأصنام البشرية الجاثمة على الصدور والتي تكرس الفقر والقهر والخوف.

بنظرة واحدة على أول انتخابات ديمقراطية نزيهة حرة في مصر عام 2012 بعد ثورة يناير، فقد تقدم لها أكثر من 12 مرشحا، كان فيهم ستة على الأقل يصلحون رؤساء قادرين على الحكم بأفضل من مبارك الذي ظل 30 عاما في السلطة ويزعم خلالها حواريوه ومنتفعوه ومطبلوه وجماعات مصالحه أنه لا يوجد بديل له، مناخ الحرية يفجر الطاقات المكبوتة، ويكشف عن الشخصيات المحجوبة.

ولولا مناخ الحرية في أمريكا ما كان ظهر باراك أوباما خلال المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي عام 2004 الذي تم فيه إعلان ترشيح جون كيري عن الحزب للرئاسة في مواجهة الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، كان أوباما سيناتورا شابا، أذهل أمريكا والعالم بخطابه القوي والرائع في هذا اليوم، قلت فورا إنه سيكون شيئا مهما في السياسة الأمريكية، وقد صار كذلك، حيث سجل في التاريخ أنه أول أمريكي أسود يرأس الدولة العظمى ولمدة 8 سنوات.

وهو أيضا مناخ الحرية الذي جعل ماكرون الذي لا يتجاوز عمره 39 عاما يؤسس حركة  شعبية “إلى الأمام” ويجوب فرنسا ويعرض نفسه مرشحا رئاسيا ويطيح بشخصيات كبيرة وثقيلة في الحياة السياسية تنتمي لأحزاب وتيارات كبيرة وقديمة ويفوز عليهم ويدخل الإليزيه.

بديل الأسد

أسوا ما يمكن أن يُقال إنه لا يوجد شخص آخر يحل محل الأسد، فكيف كان الغرب يؤكد أنه لا حل في وجود الأسد، وأن رحيله أمر لا رجعة عنه، وأن شرعيته سقطت شعبيا وسياسيا وأخلاقيا بعد أن دمر بلده، وشرد شعبه، وسالت دماء السوريين بحورا وجلب الميليشيات والاحتلالات والوصايات الدولية إلى سوريا وجذب الإرهابيين من مختلف بلدان العالم ليصير هذا البلد مع العراق مفرخه للإرهاب؟

هل كان كل هذا التطرف والإرهاب والميليشيات الطائفية والمذهبية الدموية ستظهر في سوريا ناشرة الخوف والقتل ليس في سوريا والمنطقة فقط بل في أوربا والعالم لو كان الأسد اتجه للإصلاح السياسي المبكر تحت قيادته، وتجاوب مع رسالة الربيع العربي وجنب بلده وشعبه ذلك المصير المؤلم؟

داخل نظام الأسد هناك من يصلح للقيادة ضمن هيئة حكم انتقالي بمشاركة المعارضة، وهناك في المعارضة من يصلح للقيادة، واللافت أنه قبل انتفاضة سوريا التي جرها النظام للعسكرة لم يكن يظهر على الساحة غير الأسد فقط، ومن يُسمح لهم بالظهور يتم ذلك وفق قيود مشددة حتى يظل الأسد مثل أي مستبد هو القائد والزعيم والأب للشعب، هل تتذكرون وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع الذي لمع ثم جرى إطفائه وإخفائه عن الأنظار والأضواء؟، بعد الانتفاضة ظهر المئات من القادة السياسيين رجالا ونساء لديهم الوطنية والثقافة والإعداد والجدارة بأن يكون كل واحد منهم قائدا حقيقيا في سوريا.

ندرك أن الإرهاب الذي تتعرض له فرنسا منذ 2015 فرض إعادة ترتيب في أولويات قضايا السياسة الخارجية، حيث قفزت محاربته على رأس سلم أجندة الرئيس السابق أولاند، والقضية في صدارة أجندة الرئيس الحالي ماكرون، وهذا طبيعي، لكن غير الطبيعي من نظام ديمقراطي في دولة حرة هو المشاركة في إعادة الترويج للديكتاتور والسقوط في فخ إغوائه باعتباره يمثل عامل أمان ضد سيطرة التطرف أو وصول متطرفين وإرهابيين للحكم، أو أنه الأكثر ضمانة من معارضة سياسية تبدو متفرقة ومعارضة مسلحة تبدو متراجعة على الأرض، أيا كان تزيين السوء وتلميع المستبد كضامن للأمن وأنه شر أخف من شر التطرف؛ فالمؤكد أن الديمقراطية التي تنتج الحاكم المدني المتصالح مع شعبه هو الخيار الآمن الضامن للاستقرار الحقيقي والفاعل في تحجيم التطرف، لأن الديكتاتوريات هي مصدر كل المفاسد والشرور ومنها الإرهاب.

ألا يعي القادة في الغرب أن الإرهاب الذي يضرب بلدانهم عبر إليهم من بلدان تخضع لديكتاتوريات قاسية تغلق المجال العام وتقمع وتكبت كل صوت يريد أن يعبر عن نفسه؟، تخيلوا لو أن دول حكم الفرد والتسلط تمتعت بالحريات كما في الغرب، الطبيعي أنه لن يكون هنك مجال للمظالم والغضب واليأس والاحتقان الذي يدفع للتطرف ثم العنف، وإذا ظهرت تيارات منحرفة فإنها ستكون محدودة جدا ولن تجد منابع تغذيها بالعناصر والمتعاطفين وتمدها بمختلف أسباب البقاء ومصيرها إلى العزلة والزوال. الاستبداد والارهاب وجهان لعملة واحدة رديئة، والحرية والاستقرار وجهان لعملة واحدة ثمينة.

لتحارب فرنسا وأمريكا وروسيا ومختلف البلدان الإرهاب في سوريا والعراق، لكن ذلك لن يعني القضاء على جذوره وأسباب وجوده، أحد أهم أسباب بقاء الظاهرة المدمرة هو الأنظمة السلطوية والدولة البوليسية، والتقارب بين روسيا الداعمة للأسد والمتمسكة به مع فرنسا ماكرون لا يجب أن يجعل باريس تطعن شعاراتها التاريخية في الحرية والإخاء والمساواة، فتلك قيم صارت أيقونات عالمية، ولا قيمة كبيرة لها لو اقتصرت على الشعب الفرنسي فقط، إنما قيمتها الحقيقية أن تتطلع فرنسا لنشرها والدفاع عنها في العالم الذي يفتقدها ومنها سوريا والشرق الأوسط وكل مكان تلفه عتمة القهر والقمع.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه