إسرائيل واللّعب على الحبال في إسبانيا

لا شكّ في أنّ مرور الحكومة الكتالونية من محطّة إلى أخرى نحو الاستقلال لم يكُن ليظهر بمستوى التّهوّر الذي ظهر به، لو حظِي بِدعمٍ خارجي قيّم. فبعد رفض الاتحاد الأوربي الحاسم (بجميع دُوله) منذ يوم الاستفتاء لمشروع الانفصال الكتالوني، لم يبق لكتالونيا سوى العمل على استمالة الداعمين الخفيّين والمُحتملين من أجل تخفيف وطأة اليُتم الذي بدت عليه في هذا الوقت العصيب، وحثّها على الجهر بالاعتراف بالجمهورية الكتالونية. أصوات من داخل كتالونيا تُصنّف إسرائيل في قائمة هؤلاء الداعمين الخفيّين، وأصوات من الوحدويين تستاء من هذا الدّعم وتنكره، لكن الأغلبية تتوه وسط غموض العلاقة بين الأطراف الثلاثة.

غموض الموقف

   غموض جعل رئيس إسرائيل روفين ريفلين يصل مدريد صباح الأحد  5 من نوفمبر/ تشرين الثاني بدعوة رسميّة من الملك فيليب السادس للوقوف أمام الكاميرات مُذكّرا بأواصر الودّ الذي يجمع مدريد بتل أبيب. تلك كانت نوايا الملك الإسباني ومن ورائها حكومة راخوي، فماذا عن نوايا إسرائيل التي تتجاوز موقف رئيسها؟

مراسل جريدة الموندو الإسبانية في القدس كتب مقالا يوم الزيارة عنونه بـ “إسرائيل بين تحالفها مع إسبانيا ومناصريها الانفصاليين” يقول فيه إن السؤال القادم من مدريد وبرشلونة معا “لماذا لا تُصرّح إسرائيل بموقفها من وحدة إسبانيا وانفصال كتالونيا؟” تعطّلت الإجابة عنه لأنّ المسألة مُعقّدة وتطرح متاهة دبلوماسية يمكن تفسيرها بالجملة الشهيرة للسياسي الأمريكي هنري كيسنجر”ليس لإسرائيل سياسة خارجية، هي فقط داخلية”. أو أسوةً بأعراف أغلب الدول التي تُفضّل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لغيرها وتطلب المثل بالمقابل. خاصّة وأن الأمر يتعلّق ببلد تربطه بإسرائيل علاقة صداقة متينة وطويلة مبنيّة على موروث مشترك وقيم ديمقراطية مشتركة.

  وتجدر الملاحظة هنا أن إسرائيل تلقّت في الأسبوعين الأخيرين رسالتين متناقضتين تماما: الأولى من مدريد، تحثّها على إدانة قرار استقلال كتالونيا. والأخرى من برشلونة تدعوها للاعتراف بالاستقلال (على اعتبار إسرائيل مرجعا في معارك تقرير المصير). لكن لا طرف من الطرفين وقف على ردّ مطمئن، بل جاء البيان الرسمي للديوان الرئاسي مُفعما بالتلميحات. ولم تكن دعوة روفين ريفلين في هذا الوقت سوى حرصا من مدريد لحسم الأمر لصالحها.

نظرياً

   بعد انتهاء الزيارة التي دامت ثلاثة أيّام، يمكننا القول إنّها، نظريا، تدعم موقف الوحدويين الإسبان، إذ كشفت الكاميرات مناخا ودّيا غالبا على اللقاءات السياسية والاقتصادية. إضافة الى أنّ الأجواء الاحتفالية للجالية اليهودية في مقر السفارة الإسرائيلية بمدريد تمّت وسط حضور رفيع المستوى من الطرفين، عزّزتها التصريحات المطمئنة من الجانب الإسرائيلي والشاكرة من الجانب الإسباني. لا سيما وأن الزيارة أثمرت عقود استثمار جديدة في مجالات الصناعة المعلوماتية والتخابر والطب والمياه والبيئة بين وفد رجال الأعمال الإسرائيليين المصاحب للرئيس وثُلة من رجال الأعمال الإسبان.

  “نظريا” كما قلت، يمكن أن تقود هذه التفاصيل بالضرورة إلى موقف إسرائيلي واضح وصريح لصالح الوحدويين، لكن الوسواس الذي لا يغادر هؤلاء هو أن الرئيس الإسرائيلي في الأخير لا يُمثّل إسرائيل في حد ذاتها، فالرجل مكانته من مكانة فيليب السادس (ولو نُصّب ملكا) يعني أن منصبه أقرب إلى الشرفي منه إلى قيادة سياسات بلده. وإن تماهت رؤية فيليب السادس مع رئيس الحكومة راخوي، فإنّ الأمر معاكس تماما لدى الطرف المقابل، فنتنياهو يعتبر رئيس بلده خصما لا شريكا، ولا يتحرّج أبدا في التصريح بهذه الخلافات. وروفين ريفلين من جانبه لا يُنكر محدودية صلاحياته ويعترف أن الأمر والنهي الفعلي هو رهين حكومته لا منصبه الرئاسي.

   الوسوسة الخبيثة التي لا تغادر نفوس الوحدويين وتُنغّص عليهم فرحة مُخرجات هذه الزيارة الأخيرة، تعود الى أن نتنياهو لم يقل كلمته بعد (رغم ما تسرّب عن أعضاء من حزبه من مغازلة للانفصاليين) وأن صمته يمكن أن يعتبر مهادنة ولعب على الحبلين، خصوصا وأنه (قصداً) لم يُعِر اهتماما لزيارة رئيس دولته إلى مدريد وهي تمرّ بأحْلك أزماتها.

الداخل الإسرائيلي

كلّ ما تقدّم ذكره يعتبر تفاصيل تقتصر على هذه الزيارة، لكن ماذا عن مواقف الدّاخل الإسرائيلي من هذه الأزمة السياسية الإسبانية؟

الواضح أن الداخل الإسرائيلي (برأيه العام وبسياسييه) كما الداخل الإسباني، منقسم إلى قسمين في هذا الجانب. فمن ناحية، ورغم بعض النقاط السوداء التي تشوب علاقة البلدين في فترة شيمون بيريز، تجد إسرائيل نفسها مُجبرة على دعم الوحدة الإسبانية تعزيزا لتاريخ علاقة تتجاوز الثلاثين سنة ومُراعاة لبرامج التعاون الاقتصادي الجيّد التي أثمرها التناغم بين رؤيتي نتنياهو وراخوي اليمينيتين. فالحكومة الإسبانية تثق ثقة عالية في المنتوجات الإسرائيلية في مجالات استراتيجية مثل المراقبة والتخابر، ناهيك عن حجم التعامل الإجمالي العالي بين البلدين. أكثر من هذا يبرز موقف السفير الإسرائيلي السابق في مدريد “فيكتور هاريل” كَلَفْت انتباه للمتردّدين في دعم الوحدة، بأن الدعم لإسبانيا يجب أن يكون واثقا ومُدوّيا باعتبار أن إسرائيل يجب ألا تُعوّل على كتالونيا كصديق مستقبلي تحسّبا لتنامي شعبية واحد من الأحزاب الانفصالية (كوب) الهامة داخل الحكومة الكتالونية وهو الداعم للقضية الفلسطينية.

الخطر من إسبانيا

  ومن الناحية الأخرى، يحرص سياسيون إسرائيليون آخرون على التّأكيد على أن خطر معاداة إسرائيل يأتي من إسبانيا لا كتالونيا، فهم لا يغفرون إدانات الحكومة الاسبانية لحكومتهم على إثر كل عُدوان على الشعب الفلسطيني وتصويتها لصالح الفلسطينيين في اجتماعات الأمم المتحدة في اجتماعات عديدة. خطوات أتتها الحكومة الإسبانية تعكس تقاليد اجتماعية عريقة في معاداة السياسات الإسرائيلية الاستعمارية ويبدو ذلك جليّا في الدعم المادي للحملات التي تقودها منظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية لصالح الفلسطينيين. أمّا أهمّ عامل يرى فيه هؤلاء أحقية كتالونيا بالدّعم، فهو أنّ السياسة الكتالونية تُحرّكها أساسا أطراف تدعم إسرائيل جهرا، ولا قدرة للأحزاب اليسارية المعادية في رسم السياسة الفعلية، “لأن شعاراتها تبقى مُجرّد تنفيس”حسب عبارة أحد أعضاء حكومة نتنياهو.

ومن الضروري أن نُذكّر هنا بـ “الزيارتين النوعيتين” للرئيسين الكتالونيين جوردي بوجول وأرثور ماس إلى القدس في العشريّة الأخيرة، كأبرز دليل على التناغم. ثم أنّ شخصية مُقرّبة من الرئيس الحالي بودج دي مون (الذي سعى بدوره لكسب ثقة نتنياهو حسب مصادر إسرائيلية ولم ينلها) صرّح الشهر الماضي لشخصية سياسية إسرائيلية في برشلونة ” إسرائيل من البلدان التي عانت كثيرا لنيل استقلالها وناضلت من أجل وجودها. منكم ننتظر دعما أكثر من الباقين”.

بعيدا عن كل ما تقدّم، ماذا عن المُقاطعة كمُؤشّر لرفض التطبيع مع إسرائيل؟ هل تُعيره إسرائيل اهتماما في رسم تحالفاتها وعداواتها؟  

بالتأكيد نعم، فَكلا الطرفين يتّخذها كمعيار من المعايير الهامة لتحديد الموقف من الأزمة الإسبانية. فداعمو الوحدة يستدلّون بانتشار ثقافة المقاطعة بجميع أشكالها في المجتمع الكتالوني ويذكّرون بذيوع صيت نجاح حملاتها في عقر جامعات عريقة كتالونية وبالمظاهرة المليونية التي نظمتها برشلونة على إثر قصف غزة في 2008. أمّا أنصار الانفصال فيذكّرون بمثل هذه النجاحات لكن على باقي التراب الإسباني، من ذلك ما نجحت في تحقيقه “بلدية كاديث” مثلا من مقاطعة أكاديمية للطرف الإسرائيلي. مُؤشرات تترك خوف الإسرائيليين قائما في كلا الخيارين، خاصة وأن المقاطعة سلوك يتنامى بين الناس رغم وجود تناغم سياسي واضح أو خفيّ، بين الحكومات الثلاث.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه