أنتم الناس حقا أيها الديمقراطيون

في يوم واحد يقع حدثان مهمان في بلدين غربيين، بريطانيا وأمريكا. حدثان يعكسان كيف أن الديمقراطية شيء جميل. منتج فكري سياسي ثقافي غربي رائع. ليس حكرا على بلاد المنشأ في الغرب، إنما هو صالح للتداول والاستخدام لدى كل البشر في العالم. الغني والفقير، الأبيض والأسود، الشمالي والجنوبي، المهم مسارعة من يريد أن يكون في حالة أفضل ومكانة أرقى لاقتناء هذا المنتج المفيد، وأن ينال احترام الذين سبقوه على الطريق الديمقراطي، وهذا المنتج سهل وبسيط وخال من أي تعقيدات عند الاستعمال. مجرد صندوق شفاف تسبقه إرادة سياسية وشعبية تهيئ الأرض لنقل الأوضاع من حالة تصحر وجفاف واستبداد سياسي إلى حالة جديدة ينفتح فيها المجال العام ويتنافس الجميع بلا قيود أو إقصاء، أفكار تتدافع لتقديم حلول متنوعة للأزمات، ما من دولة تقدمت وتحضرت ونفضت غبار كل مشاكلها إلا باعتناق الحكم الديمقراطي، وما دون ذلك هو مواصلة الحرث في المياه، وحتى لو كانت تمتلك ثروات هائلة فإنها تتبدد في ظل حكم الفرد، لكنها تنمو وتتضاعف مع الحكم المدني الديمقراطي، ومع أول طرقة على باب الديمقراطية تجد الشعب يصطف فورا في طوابير ويمارس حقه في الاختيار وهو في غاية الأدب والسرور والرضا بالنتائج.

المشهد المصري

هل نستعيد مشاهد الاستفتاءات والانتخابات في مصر بعد ثورة 25 يناير، وكيف ظهر الشعب المصري وهو يمارس الديمقراطية الانتخابية الحقيقية وكأنه يعرفها ويفهمها ويفعلها منذ 7 الآف سنة، وليس منذ أشهر قليلة قليلة بعد الثورة، كانت مشاهد الطوابير التي تجاوز طولها أكثر من كيلومتر رجالا ونساء وشبابا تتصدر شاشات وصحف العالم تعبيرا عن بشائر ولادة ديمقراطية لبلد كان الاستبداد يعشش فيه، وتتذكرون كيف كانت أخلاق المصريين في تلك الطوابير وفي التعامل أمام اللجان كأنك في بريطانيا أعرق الديمقراطيات والتي شهدت يوم الخميس 8 يونيو الجاري الحدث الأول الذي نتحدث عنه وهو الانتخابات التشريعية المبكرة، أو كأنك في أمريكا أهم الديمقراطيات في العالم والتي شهدت في نفس اليوم الحدث الثاني وهو جلسة استماع في مجلس الشيوخ لـ جيمس كومي المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي آي” والتي حازت اهتماما واسعا في أمريكا وخارجها.

كما كان سلوك المصريين الراقي خلال أيام ثورة يناير في التحرير مثار إعجاب العالم الذي أخذ قادته الديمقراطيين الكبار يتغنون بما يرونه ويؤكدون أنهم فخورون به وأن العالم عليه التعلم من مصر وثورتها فإن السلوك الديمقراطي للمصريين في مختلف الاستحقاقات الديمقراطية التالية كان مثار إعجاب أيضا، كان الناس أفضل مع الديمقراطية، الناس يكونون أسوأ مع الاستبداد، كانوا أفضل تعاملا وأخلاقا ومحبة وإيثارا وتواضعا، بدوا كأن فيهم مسحة ملائكية مفاجئة، الديمقراطية تخفف الاحتقان السياسي، وتقلل من الاستقطابات وتنشر التسامح، وتكشف عن المظالم، وتجعل للفرد قيمة وللمجموع إرادة، هل تتذكرون القادة السياسيين الذين كانوا يقفون في الطوابير ينتظرون دورهم في دخول اللجان ويرفضون أن يفسح لهم أحد مكانا متقدما، تلك من أخلاق المجتمع الذي يتجه نحو حكم الديمقراطية، فهم يدركون أن الجميع أمام الديمقراطية سواء، وهم يعيدون الاعتبار لقيمة الشعب وأصواته فيريدون أن يظهروا أمامه بشكل حضاري حتى ينالوا احترامه وثقته، هذا هو الذي يحدث في بريطانيا على الدوام بسبب الديمقراطية، تقوم رئيسة الوزراء وهى رئيسة حزب المحافظين الحاكم خلال الدعاية الانتخابية بالمرور بنفسها على البيوت والطرق على الأبواب والانتظار حتى يقرر الساكن هل يفتح لها أم لا؟، وهل يقبل التحدث معها أم لا؟، ومن كان يرفض فتح بابه أو مصافحتها والاستماع إليها لم يكن يجد نفسه في سيارة شرطة سكوتلانديارد مع مجموعة اتهامات مفبركة معتبرة، إنها تخطب ود الشعب صاحب قرار إبقائها في 10 داوننغ+ ستريت أو طردها وحزبها منه، وكذلك كان يفعل منافسها جيرمي كوربين رئيس حزب العمال وزعيم المعارضة، يتودد للناس بكل وسيلة ويصيغ برنامجا إنتخابيا من واقع ما يريدونه من حزبه، وتجري الانتخابات بسلاسة مدهشة دون أن يشعر أحد في بريطانيا أن هذا يوم انتخابات بسبب احترام آليات وقواعد الديمقراطية في التصويت والفرز وفي يوم واحد تنتهي العملية كلها ويُعلن الحزب الفائز وتكلفه الملكة بتشكيل الحكومة التي تكون قائمة اسمائها جاهزة في الدرج لتسير الحياة على طبيعتها برقيها وتحضرها، وهكذا أيضا فاز إيمانويل ماكرون الشاب الصغير السن في فرنسا  بالرئاسة حيث قطعها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا متحدثا مع مواطنيه عارضا نفسه وأفكاره عليهم، وهكذا يفعل كل مرشح فردا أو حزبا في بلد ديمقراطي، لكن لا يفعل ذلك أحد في بلاد الجفاف الديمقراطي، فلا اعتبار للناس، ولا أهمية للقاء معهم.

وفي واشنطن

وهناك في واشنطن كانت الديمقراطية تتحدث عن نفسها أيضا لتبهر العالم معها حينما يقوم رئيس جهاز أمني كبير سابق بالشهادة في أكثر الموضوعات حساسية وخطورة على الرئيس ترمب وعلاقته ورجال إدارته بالروس وادعاءات تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية لصالحه، كان معروفا قبلها بأسبوع أن كومي سيدلي بشهادته يوم الخميس 8 يونيو، وأن الشهادة في غاية الأهمية بالنسبة للتحقيق المستقل الذي يجري حاليا في قضية العلاقات السرية مع روسيا والتي قد تنتهي بعزله، أمر جلل، وكومي تعرض للطرد من وظيفته على أيدي ترمب لأنه كان يحقق في تلك العلاقة المريبة، أي هناك شبهات وراء الهدف من الإقالة تشير إلى ترمب وللحظات تصورت أنه يمكن تدميره أو تغييبه عن الجلسة حتى لايقول شيئا يعمق أزمات وجراح ترامب، تصورت أن أمريكا صارت بلدا عربيا مثلا، لكنها دوما تثبت أنها بلد الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والقانون والدستور الذي يُحترم الى حد التقديس مثل الكتاب المقدس لديهم – من أسف أن تلك القيم لا تعتد بها إدارة ترمب مع العالم الخارجي -، ظهر كومي وأدلى بشهادته وتحدث كما شاء، وكان ترمب جالسا في المكتب البيضاوي يتابع الجلسة لحظة بلحظة مع فريقه القانوني حتى يجهز دفاعاته وأسلحته لو وجد نفسه محاصرا بتلك الشهادة.

الخلاصة أن رئيس أهم دولة في العالم والذي بإيماءة رأس منه ثم بتغريدة يقلب دول الخليج والعرب رأسا على عقب ويجعلهم يشعلون حربا عنيفة بينهم، هذا الرئيس المخيف للعرب فقط، كانت فرائسه ترتعد من شهادة موظف كبير سابق لأن مصيره قد يكون معلقا بما سيقوله عنه، لأن المحاسبة في ظل المؤسسات الديمقراطية يمكن أن تطيح بالرئيس كما حصل سابقا مع نيكسون، وكاد أن يحصل مع كلينتون.

الديمقراطية تعلم الساسة والحكام احترام الشعوب والقانون والدستور، وتعلم الشعوب الأخلاق، وطرق التعامل الراقي، وترفع منسوب الإنسانية لديهم، وتنمي ثقافتهم ومداركهم ووعيهم، وتجعل الشعوب ومنظماتها المدنية رقيبا حقيقيا على المؤسسات الرسمية، وتجعل المؤسسات خادما حقيقيا عند شعوبها، وليس العكس.

الانحدار الشامل الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية بسبب غياب الديمقراطية، هذا ليس شعارا، هذه حقيقة دامغة وأمامنا نموذجا بريطانيا وأمريكا في يوم واحد، وأمامنا ممارسات ديمقراطية كثيرة متواصلة.

مع الديمقراطية ستجدون أن المساوئ العامة التي تظهر وتتفشى في المجتمعات سيختفي كثير منها، وأن الأزمات والمشاكل لن تبقى طويلا، وأن الكراهية والفاشية ستُطوى صفحتها، ولن يجد المنافقون سوقا رائجة لهم، وستتطهر الساحات من كل أنواع الخفافيش وسيرتفع بنيان البلدان في زمن وجيز.

أنتم الناس حقا أيها الديمقراطيون. 

      

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه