أن تكوني تونسية وتساندين الإمارات!

   يبدو أن الزوبعة التي فجّرتها الأزمة الإماراتية- التونسية بخصوص منع التونسيات من استعمال الطيران الإماراتي، تحوّلت إلى قضية رأي عام لا تعرف الهدوء.

فاستهداف المرأة التونسية (ورمزيتها) في أزمة مثل هذه يُصعّد وتيرة التفاعل، حتى وإن كان سبب المنع أمنيّا حسب ما صرحت به الخارجية الإماراتية.

العجيب أن جانبا من الشخصيات العامة وجماهيرها الذين اعتدنا دفاعهم الجيّاش عن حقوق المرأة التونسية التقدّمية، وقفوا على الحياد في البداية ثم استماتوا في الدفاع عن مشروعية القرار الإماراتي. فهل كان هذا القرار فعلا صائبا لدرجة ترى فيه هذه الفئة ما لم يره السّواد الأعظم من حكمة ومنطق؟

المفاجأة

     حين تفاجأت التونسيات في مطار تونس- قرطاج يوم الجمعة 22 ديسمبر/كانون الأول، بمنعهن دون سابق إعلام من استعمال الطيران الإماراتي أينما كان، بقي الجميع في دهشة من الأمر. ولم يُخفف من حدّة هذه الدهشة والغرابة، حضور وسائل الإعلام والإلحاح على مُمثلي الشركة في تفسير دوافع القرار.

 فقد استمر الأمر ضبابيا حتى بعد انتشاره سريعا واحتداد وتيرة التفاعل معه. ردات الفعل الرّسمية تأخرت في التّعليق على القرار، وإن صدرت بعضها باحتشام، إلا أنها فشلت في الإقناع، باعتبارها احتاجت أكثر من 48 ساعة للكشف عن أن دوافع القرار أمنية بحتة وتتعلق بتوقّع قيام امرأة تونسية بعملية إرهابية في واحدة من طائرات الإمارات. وقيل إنّه قرار صادر عن مقرّ الشركة الأم في دبي. حقيقة التوجّس وإن حصل فهو لا يرقى إلى مستوى المعمول به حسب الاتفاقيات الجوية الدولية، بل إن قرارا أرعن أقرب إلى الإهانة أو الاستفزاز الصبياني لسبب لا يمتّ لقطاع الطيران بِصلة.

   الأقرب الى المنطق في قرار مثل هذا، أن تتوحّد رسالة التونسيين للتنديد بهذا القرار الغريب وطلب اعتذار عاجل من الجانب الإماراتي لتدارك السّقطة. لكن عمليّا، لم يقع تناول الحادثة كذلك، فقد ارتأى عدد (صغير) من التونسيين (الحداثيين) التخفيف من وطأة فظاعة القرار الإماراتي في اليومين الأوّلين والميل إلى تكرار الخطاب الشوفيني دون المساس بصورة الإمارات وسياساتها.

التحرر

وما إن أصدرت الحكومة التونسية بعد ثلاثة أيام أمرا بمنع الطيران الإماراتي من استعمال المطارات التونسية، حتى تحرّر جانب من هؤلاء من حياده وانطلق في تمجيد القرار التونسي والمرأة التونسية، مع النّيل من سياسة شركة الطيران الإماراتي (لا الإمارات).

   الجانب الآخر منهم، إضافة إلى قسم من الجالية التونسية في الإمارات، استماتوا في إيجاد العُذر للقرار الإماراتي طالما أن السبب متعلّق بالإرهاب.

   أمّا السّواد الأعظم من الرأي العام فلم يقتنع إلى اليوم بوجاهة القرار حتى بعد الكشف عن أسبابه، وبناء عليه ثمّن الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة من معاقبة لشركة الطيران الإماراتي، بل وانساق في معركة تفاخر بتاريخ بلده وأجواء الحرية التي ينعم بها، ودخل حرب تراشق افتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي مع أنصار القرار الإماراتي.

 الخلاف أخذ بعدا سياسيا منذ أوّل لحظة، وقيل إن القرار الإماراتي كان خطوة تصعيدية لخلاف خفيّ بين حكومتي البلدين. لكن العجيب في الأمر، هو أنّ المواقف خرجت عن مشهد الاصطفاف السياسي المعهود. فالفئة التي عبّرت عن غضبها مثلا منذ حدوث الواقعة وثمنت قرار الحكومة لم تكن يوما من أنصار الحزب الحاكم، بل هي معارضتها. لكن الواضح أن المصلحة العليا غلبت على التفاصيل. أمّا الجانب الذي استمات في الدفاع عن القرار الإماراتي بل ومضى بعضه إلى التفاخر بإمكانات الإمارات وإشعاع صورة أبراجها في العالم فيمثلون فئة من قواعد الحزب الحاكم.

الناطقة سعيدة قراش

    ومن أكثر الشخصيات التي أثار موقفها نقدا لاذعا واستهجانا واضحا، هي الناطقة باسم الرئاسة التونسية “سعيدة قراش” (مناضلة نسوية، صف أول)، إذ لم تجد حرجا في إيجاد تبريرات واهية للقرار الإماراتي، وشُحنة الشعور بالإهانة قد وصلت أوجها في قلوب التونسيين، لدرجة أن موجة من السخرية غزت مواقع التواصل الاجتماعي مُطلقة عليها لقب “الناطق الرسمي للحكومة الإماراتية”.

  ثاني هذه الشخصيات، محسن مرزوق، رئيس حزب “مشروع تونس” المُنشق عن نداء تونس (حزب الرئيس قائد السبسي). المعروف في تونس أن حزب النداء (وكذلك المشروع) نال ثقة تصويت العنصر النسائي في انتخابات 2014 باعتباره اتخذ من خطاب المرأة والنمط الحداثي التونسي رُكنا ثابتا في كل امتحان سياسي.

ولا يخفى على أحد أن تياراً بعينه تلقّى دعما ماديا كبيرا من بعض الدول، من بينها الإمارات (التي اعترف الرئيس التونسي الحالي بما قيل في الغرض)، مقابل تأمين إزاحة حزب النهضة من المشهد السياسي تماما بعد الفوز في الانتخابات وقتئذ.

وبما أن المال لم يقو على شراء كل الذمم، فقد أعادت الصناديق النهضة من جديد وبِوزن لا يسمح بإقصائها. فما كان من السبسي إلا أن تآلف معها وأدار ظهره لداعمي الأمس تفهّما لاستحالة الإقصاء بالقوة. في حين، طرح أمين عام حزبه محسن مرزوق نفسه بديلا جديرا بهذه المهمة، وطمأن الإمارات أنه قادر سياسيا على تمثيلها في تونس، رغم أن السبسي الذي يفوقه خبرة وتجربة عجز عن هذه المهمة وسلّم بأمر التوافق مع النهضة. تلقّف مرزوق المشعل وانشقّ، وغادر بقاعدة نسائية عريضة لتأسيس حزب المشروع. وها هو اليوم و “نصيراته” يستميتون في الدفاع عن القرار الإماراتي.

    جدير بالذكر أن مواقف “المُتفهّمات” للقرار الفضيحة، والمنحصرة كما سبق القول في جزء من الجالية التونسية في الإمارات وجزء من القاعدة الانتخابية للأحزاب الحداثية في تونس، اجتمعن منذ تجربة الترويكا وحتى قبلها على تقييم مدى وطنية أي طرف سياسي بمدى دعمه المطلق لقضية المرأة (على اختلاف مطالبها)، ووصل الأمر بعد الثورة إلى خلق معارك وهمية أتت أُكلها في تجييش هذه القواعد للحسم في معارك سياسية عديدة.

  حماس وحَمِيّة جيّاشة ترى في مسألة المساواة في الميراث أو هضم حقوق الأم العازبة مثلا قمّة المظلومية وما أتته شركة الطيران الإماراتية قرارا إداريا محضا، لا ينتقص من قيمة المرأة. أزمة عابرة أوضحت للقاصي والداني أنّ ملف المرأة بالذات، هو من أكثر الورقات القابلة للمتاجرة. إذ يمكن أن تكون المرأة تونسية الهوية، وإماراتية الاصطفاف، إذا أرادت.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه