ألغام علي طريق العدالة الانتقالية

 عبده مغربي*

 “يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون العدالة الانتقالية ، يكمل كشف الحقيقة ، والمحاسبة ، واقتراح اطر المصالحة الوطنية ، وتعويض الضحايا ، وذلك وفقاً للمعايير الدولية ” .. هكذا نصت المادة 241 من دستور 2014 في مصر .
ودستور 2014 هو الدستور الذي نص أيضاً وبشكل واضح علي أن ما حدث في 25 يناير 2011 ثورة شعبية ، وما حدث في 30 يونيو 2013 ثورة شعبية أيضاُ ، وطبقاً لما قاله المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض في مصر ، وأستاذ القانون الفخري بـ”جامعة درهام – المملكة المتحدة ” فإن المعايير الدولية تقوم علي حقيقة أنه في البلاد التي عانت من نظم استبدادية يجب أن يعقب زوال تلك النظم الأخذ بمبادئ العدالة الانتقالية التي تقوم أساساً علي توثيق انتهاكات حقوق الإنسان ، ومحاسبة المسئولين عنها ، ومعرفة حقيقتها ، وإصلاح مؤسسات الدولة ، وإعادة هيكلة من تورط منها في ارتكاب الجرائم والتجاوزات ، وإعلام المواطنين بحقيقة ما حدث من انتهاكات في حقهم ، مع القصاص العادل للضحايا ، وإنصاف أهليتهم ، وتخليد ذكراهم ، ووضع البرامج اللازمة لإعادة تأهيل ودمج من هم علي قيد الحياة منهم ، وصولاً إلي تحقيق المصالحة بين أطياف المجتمع المختلفة ، بما يسهم في الانتقال بالمجتمع من مرحلة عدم الإستقرار إلي مرحلة المصالحة والسلام والاجتماعي ، مما يوفر بيئة مناسبة للنمو الاقتصادي .
بهذا الشكل الذي شرح فيه المستشار عادل ماجد ماهية وكيفية وطريقة وأهداف ونتائج العدالة الانتقالية ..هل نري مصر بواقعها الحالي مؤهلة لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية ؟ الإجابة ترجمتها حالة المشاركين في برنامج إعداد القيادات الرفيعة الذي أعدته “مؤسسة القادة ” وتشرف عليه وزارة الشباب في مصر وتشرفت بأن أكون أحد المشتركين فيه ، حيث ما إن بدأ المستشار عادل ماجد في الحديث عن العدالة الانتقالية حتى ضجت القاعة بالنشاط بين مؤيد ومعارض لفكرة العدالة الانتقالية ،  حسب مفهوم كل منهم لها ، فمن حصرها في المصالحة فقط هاجمها واعتبر الحديث عنها ترف لا مجال له في مصر وهي تعيش حقاً حالة حرب مع الإرهاب ، في إشارة طبعاً إلي جماعة الإخوان المسلمين وعلاقاتها بما يحدث علي الأرض الآن من عنف ، المثير أنهم أنفسهم من رفضوها وجدوها في موضع آخر ضرورة لإنصاف الضحايا بعد أن قام المستشار ماجد بشرح موسع لمفهوم العدالة الانتقالية أخرجها فيه من مفهومها الضيق إلي مفهوم أعمق وأشمل لا يمكن لأي دولة قامت فيها ثورة أن تنهض بدون تطبيقها حتى يتحقق السلام الاجتماعي الذي لابد وأن يسود في النهاية ،  وبعد يوم كامل من النشاط والتفاعل بدأ في الصباح وانتهي بعد آذان العشاء تبدلت مفاهيم معظم من حضروا ، واتفقوا جميعاً علي أنه لا مفر من العدالة الانتقالية في مصر كوسيلة لإخراجها مما هي فيه .
العدالة الانتقالية  أصبحت من الحتمية بمكان أن تعتبر مشروع قومي وحتمي في مصر ، نظراً لما مرت به من حالات فوران شعبي ، ما تزال أصداء هذا الفوران حاضرة في كل مكان بالبلاد ،  وربما هذا ما اضطر المشرع الدستوري أن ينص صراحة وبشكل واضح في دستور 2014 إلزام مجلس نواب 2015 بإصدار قانون العدالة الانتقالية ، وألزمه بشكل اوضح  أن يكون من أهدافه تحقيق المصالحة الوطنية  في النهاية .
إذن فالمصالحة الوطنية  أصبحت غاية حتمية وفقاً للدستور ، وهي  وإن كانت ما تزال مرفوضة من غالبية الأطراف الفاعلة  في الشارع المصري الآن ، حتي أصبح الحديث عنها كبيرة من الكبائر ، إلا أن كل التجارب في العالم تقول أن العدالة الانتقالية بأركانها التي من أهمها المصالحة الوطنية ، تٌعد هي الضرورة الحتمية لاستقرار الأوضاع بعد أي ثورة ، فما بالك بثورتين ، يقول فيهما المستشار عادل ماجد الخبير في نظم العدالة الانتقالية  أن مصر معهما بحاجة إلي عدالة انتقالية مركبة ، لأنه لم يحدث أن مرت تجربة في العالم بما مرت به مصر ، ثورتين شعبيتين متكاملتين عند البعض متعارضتين عند البعض الآخر ، ما يضفي عليها عند تطبيق مفاهيم العدالة الانتقالية مزيداَ من الحساسية والتعقيد سواء علي المراحل الزمنية التي يجب أن تشملها ، أو نوعية الجرائم التي ستتصدي لها ، أو الآليات التي سيتم استخدامها مثل ” كشف الحقيقة ـ المحاسبة ـ العفو ـ جبر الضرر ـ الإصلاح المؤسسي ـ المصالحة ـ تخليد الذكري ـ  وحفظ الذاكرة الوطنية ، و .. و .. إلخ ” .
ومع ذلك ورغم كل الأهداف السامية والنبيلة  للعدالة الانتقالية كحل حتمي في النهاية لتحقيق المصالحة الوطنية وصولاً إلي الاستقرار والسلام الاجتماعي إلا أن طريق العدالة الانتقالية في مصر مزروع بكثير من الألغام التي تجعل السير فيه وفي ظل الظروف التي تمر بها البلاد نوعاً من انواع المغامرة المحفوفة بالمخاطر ، فلا يمكن مثلاً أن تشرع في إعادة هيكلة جهاز الشرطة أحد أهم أسباب اشتعال ثورة 25 يناير في وقت يخوض فيه أفراد هذا الجهاز أشرس المواجهات في تاريخه مع الإرهاب بعد ثورة 30 يونيو ، ولا يمكن أن تفرض مبدأ المحاسبة علي من ارتكب جرائم الدم ، دون وجود آليات تكشف القاتل وتحدد شخصيته ودوافعه ، وتميط الخمار عن المحرض لكي يشمله العقاب جنباً إلي جنب مع القاتل الفعلي ، فحتي هذه اللحظة لم نعرف من الجاني الحقيفي موقعة الجمل ، وقبل يومين سقطت شيماء ولم نعرف قاتلها رغم انتشار الكاميرات في كل مكان بمسرح الجريمة في طلعت حرب ، ولا يمكن أن تقنع الضحية أو ذويه بالعفو ، ونار فؤاده لم تهدأ بعد علي فقيده ، هذا فضلاً عن انه لا يمكن  للقطاع الأكبر من الشعب أن يقبل  بالعفو عمن تلطخت أيديهم بالدماء ، سواء بالقتل المباشر أو بالتحريض ، لذلك فكشف الحقيقة والمحاسبة وهما من أهم أركان العدالة الانتقالية  لا يمكن تطبيقهما من دون وجود مفوضية محايدة لديها كامل الأدوات،  في كشف الحقيقة ومحاسبة الجاني ، والإصلاح المؤسسي وجبر الضرر ، ثم بعد ذلك نحتاج إلي نشر ثقافة العفو ، وهي ثقافة منوط بها الإعلام النقي والهادف ، وهو غير متوفر حالياً في ظل استقطاب إعلامي متطرف .
 باختصار شديد البيئة المجتمعية الأن في مصر ما تزال غير مهيأة نوعاً لنشر بذور العدالة الانتقالية ، والبرلمان الآخذ في التشكل الآن حتي وإن نظر أو أقر قانون العدالة الانتقالية ، فإن بنوده ستظل حبراً علي ورق ما لم نسع جميعاً إلي تهيئة الأوضاع لعدالة انتقالية  واضحة تكشف الحقيقة ، وتحاسب الجاني، وتعوض الضحايا  وتقترح اطر للمصالحة الوطنية.. تهيئ الأوضاع إلي سلام اجتماعي حقيقي ، كما نص الدستور، دستور 2014.  
_______________

كاتب وصحفي مصري*
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه