أطفال السماء والحذاء الداعشيّ

أنوار سرحان*

أطفال السماء:
الحذاء بين يدي الإسكافيّ يرتقه، وقبالته يجلس بصبرٍ طفلٌ تبدو على ملامحه البراءة والشقاء، يحمل الحذاء فور انتهاء إصلاحه، ويمرّ بمخبزٍ يشتري خبزًا ليحمل الكيسين معًا إلى محلّ خضار لشراء البطاطا، غير أنّ حامل النفايات يعبر وقت انشغال الطفل بالتقاط حبّات البطاطا ويحمل معه خطأً الكيسَ الذي فيه الحذاء. في البيت تنتظر أختٌ صغرى ليصدمها خبر ضياع الحذاء.  يقف الطفلان بطلا الفيلم أمام معضلة إيجاد حذاءٍ بديل، ولأن حال الوالد المادي لا يسمح باقتناء حذاءٍ جديد فإنهما يتفقان على إبقاء الأمر سرًّا، ليبدءا معا رحلةً مضنية من الشقاء في محاولة العثور على البطل الغائب – الحذاء.
هذي هي باختصار فكرة الفيلم الفارسي “أطفال السماء”، فيلم يزخر بالجوانب الإنسانية والفنية التي تستحقّ مقالاتٍ مطوّلة، والتي قد يتّسع لها حيزٌ آخر، ولكن ما يعنينا منه في هذا المقام، إنما رمزية فقدان الحذاء الذي يفترض أنه وسيلة الطفل لعبور الدروب الوعرة متجنبًا وخز أشواكها وصعوباتها. فإذا كان الحذاء رمزًا إلى ما قد يعين الإنسان على اجتياز طريقه آمنًا من وعورته، فإنّ لنا أن نسمع من وراء الفيلم صرخةَ أجيالٍ لم نمنحها ما تستعين به على دروب الحياة، سواء من حيث الجهوزية النفسية أو الذهنية أو الاجتماعية، أو المادية أو العلمية .

أطفالنا والعصر الداعشيّ:
لنتأمّل معًا ثلاثة أحداث رجّت متابعيها في الآونة الأخيرة، لعلّ أفظعها كان إعدام الطيار الأردنيّ معاذ الكساسبة على أيدي تنظيم داعش بالحرق حيًّا. وحشية كانت كافيةً أن تثير أيّ إنسانٍ لينتفض مصعوقُا (ليأتيَ الردّ عليها بإعدام أسيرةٍ أخرى، وكأنّ علاج الإلغاء هو الإلغاء ودواء القتل هو القتل!). أمّا الحادثة التي سبقتها فكانت قتل طاقم صحيفة شارلي إيبدو، التي شهدت ردود فعل دولية وعلى أعلى المستويات، وأمّا الثالثة فما حدث مؤخّرًا من قتل ثلاثة طلبةٍ جامعيين في أمريكا، لمجرّد كونهم مسلمين على أيدي حاقد على الإسلام.
ثمة خيطٌ يجمع الأحداث الثلاثة، بل وكثيرًا مما يجري حولنا أيضًا، وهو إلغاء المختلف ورفضه حدّ قتله. وإذا كان أتباع داعش يسعون إلى تطبيق ما يؤمنون به على الآخرين، ونفي كلّ من خالفهم الإيمان، فإنّ الحقّ أننا أمام نماذج متعددة لذات “الداعشية”، باختلاف الدافع أو القناعة، وبتشابه الإيمان باحتكار الحقيقة، وبالحقّ في إعدام أيّ إيمانٍ آخر.
ولو تعمّقنا قليلًا لوجدنا أننا في الواقع أمام مشهد زاخر “بالدواعش” أو “الداعشيين”  المؤمنين بالحقّ في تطبيق قناعاتهم وقتل سواها. ثمة داعشية قومية أو أخرى دينية، تلك حزبية أو أخرى طائفية، أو فئوية، غير أنّ أقواها تلك المنطلقة من قناعاتٍ دينيّة، فهي تحيل وحشيّتها وإلغاءها للآخر إلى أسبابٍ ومبرراتٍ إلهيةٍ بمعنى أنه لا يمكن الاعتراض عليها.
المرعب أنّنا في أيّ حوار مع مثقف أو بسيط، سنرى أنّ في عمقه داعشيًّا مكبوتًا قد لا يملك ممارسة داعشيته ولكنه يؤمن بها ويقدّسها.
من أوّل لثغة:
يبدأ تأسيس الشخصية “الداعشية” في نفسية الطفل منذ أوّل تلقين للقناعات على أنها اليقين والحقيقة، ليتمّ طرد السؤال والتفكير منه وتحويله إلى ببغاء من القطيع يدافع عن قناعات ورثها دون تمحيص ولا تفكّر ولا تعقّل. ما يجعل هذي القناعات قادرةً أن تهتزّ وتتصدّع إن واجهها سؤال العقل، هنا يغدو السؤال عدوًّا من الضروري محاربته في الداخل الذاتي والآخر الخارجيّ.
ثم يزداد الطين توحّلًا إذ يرتشف الطفل يوميًّا فكرة احتكار الحقيقة ليزداد احتقارًا للآخر ورفضًا له ولقناعاته، وتكفيرًا لكلّ من ورث قناعةً أخرى، أو دفعه السؤال والفكر إليها.
نحن إذن نزرع ونسقي ونغذّي وننمّي ونربّي نماذج متكررة للداعشية الفكرية، القادرة بمجرد هبوب غيوم التكفير نحوها أن تخصب وتتحوّل إلى قتلةٍ ومجرمين، أو أن تعانيَ من النماذج المشابهة التي قد تترعرع في بيئةٍ مشابهة لتستحيل وحوشًا ضحاياها هم أبناؤنا.
سلّم بلوم ومناهجنا:
إذا نظرنا إلى تصنيف بلوم للعمليات الذهنية والعقلية في تعلّم أية مادة والتفاعل معها، فإننا نجدها ستة مستويات أدناها الحفظ والتذكر، يليه الفهم ثم التطبيق أي الاستفادة مما حفظه وفهمه لتطبيقه على مجال آخر في الحياة، ثم في المستوى الرابع يأتي التحليل يرتقيه التركيب واستنباط حقائق من معطيات مذكورة إلى أن نصل المستوى الأعلى وهو التقويم الذي يندرج فيه النقد ونقاش الحجج واتخاذ موقف بناءً على تفكيرٍ نقديّ قادر أن يرى كلَّ معلومة بعين الناقد المتبحّر المستنبط للخطوط المخفية الناسج منها خطوطًا جديدة تعينه أن يبني موقفًا من أيّ مشهد.
أما إذا نظرنا إلى مناهجنا وأساليبنا التعليمية  في معظم بلادنا العربية فإننا نراها مرتكزةً على المستويين الأوّليين فقط، أي مجرد تذكّر المعلومات وترديدها أو فهمها كما قُدّمت إلى الطالب كحقيقةٍ لا مجال لتحليلها أو لربطها بحقائق أخرى أو لاتخاذ موقف منها .
الحقيقة الجليّة إذن أنّ ثقافة التلقين راسخةٌ في المربّي والمدرّس والأهل بل وفي واضعي المناهج ووزارات التعليم والتربية. فكيف يمكن لطفلٍ ينشأ هذي النشأة أن يفكّر في الحقيقة التي ورثها من أحد الناطقين “بلسان الله”، وكيف يمكن أن يفهم أو يتفهّم أنّ سواه قد يرى بعيونٍ أخرى؟
كيف الخلاص وأيّ “حذاء” قد يشفع ل”أطفال السماء” إذن؟
يطلّ السؤال الأهمّ هنا، عمّا قد نفعله لنعين أبناءنا أن يعبروا هذي النيران المتربّصة والقادرة على حرق العالم القادم باسم احتكار الحقيقة . والذي لن يحدث إلا بتنشئة مختلفة ومناهج جديدة تربّي إنسانًا مسكونًا بالسؤال من جهةٍ، ومؤمنًا بالاختلاف من أخرى، وترسّخ كَون الدين بوجه الخصوص مجردَ سبيل إلى الغاية الأرقى وهي التواصل مع الإله ومع خلفائه في الأرض كما يليق. فتحيل الديانات قيَمًا إنسانيةً وضميرًا ونقاءً نفسيًّا لا قشورًا ومظاهر ولا صراعًا مع سواه ، طرقًا تتعدد سبلها وتتوحّد غايتها، دون أن تغلق باب السؤال بل تشرعه على أوسع ما أمكن دون استثناء. لن يمكن لبشر أن يتقبل الاختلاف ويحترمه ما دام مسكوناً باليقين وبأنّ الحقيقة هي ما بين يديه. وحده المسكون بالسؤال نحو أيّ شيء وأيّ أمر هو القادر أن يتفهّم وجود سواه في اتّجاهٍ آخر وامتلاكَه لقناعة مختلفة.
نحن إذن بحاجةٍ إلى مناهج جديدة تعيد للسؤال مكانته وتلحّ على التفكّر والاستنتاج والتحليل لا على الحفظ وترديد قناعات على أنها الحقائق، وتنشئ طلابًا قادرين على التفكير النقديّ، وحوار الذات قبل الآخر.  ولن يتسنى لنا ذلك إلا بمدرّسين قادرين أن يطوّروا ذواتهم كي يطوّروا تلاميذهم. يبدو الأمر صعبًا لكنه ليس مستحيلًا إن استعرنا من التاريخ نماذج الاستعانة بطواقم مؤهّلة للتغيير.  هل نحلم أيضًا باستبدال مواد “التربية الدينية” بصيَغها المطروحة، بالتربية “الإنسانية”. تلك المحتفية بالإنسان والإله المنشود، لا بسبيلٍ إليه فُرض عليه وراثيًّا؟!

__________________

*كاتبة وأديبة فلسطينية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه