أزمة الحزب الحاكم في تونس

عبد الرزاق قيراط*

تحوّل الحزب الحاكم “نداء تونس” في الأيام الأخيرة إلى نداءات استغاثة تنبعث من شقّين متنازعين وتبثّها بكثير من العطف والتعاطف وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمكتوبة. فقد ترعرع ذلك الحزب في ظلمات كواليسها خلقا من بعد خلق، وتولّت حمله وفصاله، من دون وهن، ثلاثين شهراً حتّى اشتدّ عوده واكتملت عدّته. وبتلك العدّة، حارب الترويكا ونجح في إسقاط حكومتيها وتشويه مناضليها، استعداداً لانتخاباتٍ حُسمت نتائجُها في الاتجاه الذي “قدرناه تقديرا”. ففاز حزب النداء بالرئاسيّة والتشريعيّة معاً.. وكان ذلك الفوز أشبه بارتكاب “فعل موحش” ضدّ الثورة وأنصارها، لأنّ الذين فازوا يمثّلون الثورة المضادّة التي أعادت رموز النظام القديم إلى الحكم. والنظام القديم في تونس لا يشمل ما يعرف بالدساترة فقط، وإنما يضمّ بالإضافة إليهم، يساريّين انتهازيين ورجالَ أعمال متنفّذين حكموا طويلا مع بورقيبة، وانقلبوا عليه مع بن علي، ولم يغادروا مواقعهم في السلطة إلاّ في أثناء الفسحة التي أعقبت ثورة الحريّة والكرامة… وهكذا عادوا بعد غياب قصير كأنّ ثورةً لم تكن.
يمرّ الحزب الحاكم إذن بأزمة خطيرة لا يمكن التكهّن بمآلاتها إذ تسير في اتجاهات تصعيديّة تتعاظم يوما بعد يوم. ولذلك يصعب السيطرة عليها للعودة إلى حالة الوفاق الأولى. وملخّص الأزمة متّصلٌ ببروز تيّارين متصارعين على زعامة النداء استباقا لما قد يفرزه مؤتمره الأوّل. “فالهيئة التأسيسيّة” تعتبر أنّها صاحبة الشرعيّة، وترفض الاعتراف بالهيئة التصحيحيّة التي تشكّلت مؤّخّرا لتطالب بانتخاب مكتب سياسيّ موسّع يضمّ نجل الرئيس حافظ قايد السبسي، الأمر الذي اعتبره الوزير لزهر العكرمي “محاولة انقلابية” قادها السبسي الابن طمعا في التوريث قائلا في تصريح إذاعيّ:” هناك مجموعة من الناس لم يتولّوْا مواقع  في السلطة، تجمّعوا اليوم حول هذا الشخص وقالوا له، أنت الزعيم وأنت الوريث”.
لكنّ النائب خميس قسيلة الذي انخرط في “الحملة التصحيحية”، اعتبر أنّ قادة الانقلاب هم الوزير لزهر العكرمي ومستشار الرئيس محسن مرزوق ومدير الديوان الرئاسي رضا بلحاج، مؤكّدا أنّهم يستغلّون “مناصبهم في الدولة” للهيمنة على الحزب.
والموحش في هذه التصريحات أنّ الحزب الحاكم يعترف بألسنة قياديّيه بوجود تناحر وأطماع سلطويّة تُستغلّ فيها مناصب الدولة، ما يثير تساؤلات موجعة عن مصير الأمانات التي أسندت لموظّفين في مواقع حسّاسة تشمل الحكومة والديوان الرئاسيّ والمجلس النيابيّ.. وقد أحصى النائب خميس قسيلة متفاخرا، 60 نائبا من نداء تونس “قرروا مقاطعة الهيئة التأسيسية نهائيّاً وعدم احترام قراراتها”.. وليس مستبعدا أن يساهم ذلك الحراك في تعطيل أعمال المجلس النيابيّ بسبب انشغال الكتلة النيابيّة الأكبر بصراع حزبيّ داخليّ يشوّش  بالضرورة على وظيفتها التشريعيّة ويثير المزيد من المخاوف على مصير بلد تعصف النزاعات بنخبته الحاكمة.
ويلاحظ المتأمّل في تصريحات الندائيّين تواتر كلمات مفتاحيّة خطيرة من قبيل “الانقلاب والتوريث والتخابر واللوبيّات والعصابات والتنصّت…”، وكلّها شبهات لا تليق بحزب يتولّى قيادة البلاد.. غير أنّ المنابر الإعلاميّة تعاملت معها بميوعة حتّى تساهم في إصلاح ذات البين و”طمأنة التونسيّين الخائفين”، بجرعات من المديح القديم من قبيل أنّ حزب النداء مثّل معجزة بوصوله إلى الحكم بعد فترة قصيرة من تأسيسه، وأنّ التونسيّين عموما يعتبرونه “صمام أمان” لمستقبل البلاد، وأنّ الحزب يمرّ بحالة مخاض طبيعيّة سيخرج منها أقوى من السابق…، هكذا يحاول الإعلام ترميم المشهد الرديء، بعد أن تورّط النداء في جرائم خطيرة كان يرمي بها خصومه السياسيّين.. فقد اعترف الندائيّون في غمرة التراشق بالتهم بوجود ما يسمّى بالأمن الموازي في وزارة الداخليّة، واستظهروا بوثائق سريّة أثارت حرجا يورّط أمنيّين في تسريب مستندات ذات مضامين خطيرة تتعلّق بمكالمات هاتفيّة وقع التنصّت عليها بدون إذن قضائيّ في خرق فاضح للدستور.
فأين هيبة الدولة التي رفعها النداء شعارا وخطّها في برنامج حكمه هدفا؟ وأين القسم الذي أبرم لحماية الدستور وصون نصوصه؟ وهل سيثق التونسيّون بهؤلاء المتناحرين فينتظروا  تحقيق وعودهم عن الغد الأفضل والرقيّ المنتظر؟
من حقّ التونسيّين أن يبحثوا عن أجوبة تشفي غليلهم، ومن واجب الندائيّين أن يحدّقوا مليّا في الصورة الموحشة التي وصلت إليها البلاد في بداية عهدهم، وقد وصفها عدنان منصر الذي عمل مستشارا مع الرئيس المرزوقي بطريقة تهكميّة مستحقّة فقال:” من حقّهم أن يحطموا بعضهم البعض، ولكنْ وهُمْ في غمرة الوضاعة التي تتكشف يوما بعد يوم على الشاشات، هل من حقهم أن ينسَوْا أنّه يفترض بهم أنّهم يديرون اليوم دولة؟ من حقّهم أن يخيّبوا ظنّ من انتخبهم، فلم نكن نتوقّع غير ذلك وقد نبّهنا إليه باستمرار، ولكنْ هل من حقّهم أن يقحموا الدولة في فوضاهم وصراعاتهم؟
هذه عصابةٌ تحكم بلدا، والعصابات لا تحتكم إلا لقوانينها. هذه عصابة يجب أن تُحاكم بتهمة الاحتيال على التونسيين وعلى الديمقراطية”.
إنّها كلمات موجعة، ولكنّها أقلّ إيلاما مما قاله الندائيّون أنفسهم عن بعضهم بعضا. فحتّى عبارة “العصابات” وردت في تصريحاتهم. ومعركتهم من أجل التنمية وتحقيق أهداف الثورة مستمرّة

_______________

*كاتب تونسي

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه