أردوغان يكسب وترمب يغرق

لم تمر أيام قليلة على الحرب الاقتصادية التي يقودها ترمب على أردوغان إلا وانقلب السحر على الساحر، وتهاوى الرئيس الأمريكي وانهالت عليه السكاكين واقتربت إجراءات عزله من منصبه، وقد عبرت مجلة تايم الأمريكية بالصورة والفيديو عن حالة الغرق التي يعيشها الرئيس الأمريكي وهو في مكتبه بالبيت الأبيض.

خرج أردوغان من المعركة منتصرا وهو يقود شعبه ضد مؤامرة ضرب العملة التركية، ونجح في امتصاص الصدمة الأولى وحشد الأتراك فأصبحوا حائطا من الفولاذ ضد الهجمة العدوانية، وفي المقابل ترنح ترمب بسبب الضربات من الخلف، وبدأ رحلة النهاية المبكرة، وفقد أعصابه حتى أنه هدد الأمريكيين محذرا من عزله قائلا “أنا أو الفقر”.

 تهديد ترمب لشعبه بالفقر إذا سمحوا بطرده من البيت الأبيض يظهره وكأنه زعيم دولة من دول العالم الثالث، لا يختلف عن المستبدين الذين توارثوا المقولة الشهيرة “أنا أو الفوضى”، التي اعتدنا سماعها وأصبحت شعار النهاية للأنظمة الفاسدة.

تركيا ومعركة الاستقلال

وسط كل الصراعات التي تنخرط فيها الولايات المتحدة فإن الصراع مع تركيا هو الأهم والأخطر، فالحرب على الإسلام لها أولوية بالنسبة للقادة الغربيين المتطرفين، وتركيا هي الدولة الإسلامية القوية التي تشق طريقها للاستقلال والتحرر من الهيمنة الغربية.

حرب ترمب ليست ضد أردوغان كشخص وإنما ضد المشروع المسلم لحزب العدالة والتنمية الذي قطع شوطا كبيرا للإفلات من القيود الغربية، ويقترب من إزاحة الاحتلال الغربي الذي يقف ضد أي محاولة إسلامية للاستقلال.

ولخصوصية الوضع الجغرافي لتركيا فإن الصراع معها معقد جدا، وليس كباقي الصراعات في العالم الإسلامي، وقد استطاع أردوغان إدارة الصراع بذكاء شديد مستفيدا من التناقضات الدولية، ونجح في تحويل العقد الجيوسياسية إلى فرص للتصدي للمكر المعادي.

لقد استغل أردوغان حرب ترمب ضد الليرة التركية في حشد الدول التي تعارض هيمنة الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات تحاصر الدولار بالاعتماد على العملات الأخرى في التبادل، والسعي لتأسيس نظام جديد بعيدا عن العملة الأمريكية.

دول مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوربي كانت لديها أفكار لوقف التعامل بالدولار لكن لأسباب سياسية واقتصادية ليس لديها الجرأة للبدء في هذه الحرب الجديدة ولكن دخول أردوغان جعله – بغير ترتيب مسبق – يقود هذا التوجه العالمي لاستبعاد الدولار من المعاملات وأعطى دفعة قوية للبدء في تنفيذ الفكرة.

جاءت الاستجابة السريعة لأردوغان من روسيا التي تحاصرها أمريكا بالعقوبات وأعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف أن روسيا ستبدأ عمليا بالتخلص من الدولار كوسيلة للحسابات المتبادلة والبحث عن سبل بديلة.

تصاعد التمرد العالمي

جسارة الرئيس التركي والمجاهرة بتحدي الرئيس الأمريكي جعلت كثيرا من القوى الدولية تسانده بشكل مباشر وغير مباشر وتتجرأ على إظهار التمرد العالمي ضد استمرار الولايات المتحدة في قيادة النظام الدولي، وصدرت تصريحات لم نكن نسمعها من قبل، خاصة من قادة الدول الأوربية.

لقد تشجع الرئيس الفرنسي ماكرون لأول مرة ودعا الأوربيين لحماية أنفسهم بعيدا عن الولايات المتحدة، أي الخروج من مظلة حلف الناتو وإنهاء الهيمنة الأمريكية على أوربا.

وفي موقف آخر لا يقل أهمية أعلن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس عن استراتيجية جديدة لألمانيا تعمل على إنشاء أوربا القوية والمستقلة وإعادة تقييم الشراكة الأطلسية  “بتبصر وبصورة انتقادية، وحتى بصورة انتقادية ذاتية”.

هذا التمرد الأوربي هو التوجه الأكثر دلالة على التمرد العالمي لأنه سيؤدي إلى تفكك الغرب ذاته وإضعاف الولايات المتحدة وتقليص دورها.

التضامن العربي

من أهم مكاسب أردوغان في معركته ضد ترمب حالة التضامن العربي الواسعة مع تركيا، التي أظهرت بوضوح التحول الكبير في اتجاهات الرأي العام ببلاد العرب، لمناصرة الأتراك وتجاوز الحماس الشعبي المواقف السياسية الرسمية.

لقد عبر العرب عن تضامنهم مع الأتراك في معركة العملة عمليا بشراء الليرة سواء في تركيا أو في البلدان العربية، وشاهدنا حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لتنظيم المبادرات لدعم العملة التركية في مشهد جدير بالاهتمام والدراسة.

هذا التحول العربي الكبير المؤيد لتركيا جاء بعد عملية وعي غيرت الانطباعات السلبية التي غرسها الفرنسيون والإنجليز لتشويه الدولة العثمانية وربط شعوبنا بالغرب الاستعماري وتحسين صورته.

لقد لعبت مواقف أردوغان وزعامته الكارزمية دورا كبيرا في تغيير مواقف كثيرين، لكن هناك سببان رئيسيان وراء حالة التأييد الطاغي لتركيا في العالمين العربي والاسلامي، أولهما استقبال تركيا للمضطهدين والمهاجرين المسلمين واستضافة المعارضين السياسيين والترحيب بهم.

لقد نجح السياسيون والإعلاميون العرب الذين خرجوا من ديارهم هربا من الحكومات المستبدة في نقل صورة حقيقية عن الواقع التركي تختلف عن الصورة التي تبثها حملات التشويه التي تقف خلفها أنظمة تابعة للرئيس الأمريكي.

 لكن السبب الثاني الذي له الدور الأكبر في تحسين صورة الأتراك هو مسلسل “قيامة أرطغرل” الذي أصبحت مشاهدته جزءا من حياة عشرات الملايين من العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم.

هذا العمل الفني المبهر هو القوة الناعمة التي استطاعت أن تبدد كل المعلومات المغلوطة التي حشوا بها كتب التاريخ والمناهج التعليمية وأعادت تقديم  الصورة الحقيقية للخلافة العثمانية التي أسسها عثمان بن أرطغرل.

نجح مسلسل أرطغرل في الوصول إلى الطبقات الشعبية التي لا تقرأ الصحف ولا تشاهد نشرات الأخبار، وكما أنه نجح في تشكيل الوعي لدي الشعب التركي وذكرهم بأجدادهم ودينهم فإنه أعاد التذكير بأن أمتنا واحدة وأن الإسلام جاء ليوحدنا تحت رايته بغض النظر عن العرق واللون والمنطقة الجغرافية، وهذا المعنى يعيدنا إلى عناصر قوتنا الحقيقية بعيدا عن الحدود السياسية التي فرضها المستعمرون ليفرقوا بيننا.

***

المعركة ضد تركيا لم ولن تتوقف، وعلينا أن ننتظر المزيد من المكر والعداء، فتركيا القوية ليست مكروهة من ترمب وحده؛ فكل خصوم أمريكا لا يتحمسون لتحرر أردوغان من الاحتلال الغربي بشكل كامل.

إن عودة تركيا كدولة إسلامية كبيرة يعني إعادة رسم خريطة النظام الدولي على أسس جديدة، وتوزع القوة بين أقطاب متعددة، وفي هذا مخرج للشعوب المقهورة وتحرير للأمم المستعبدة.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه