أدوات الحكم العسكري

 

 

للأسف

أبدأ مقالي بكلمة للأسف ولكني أجد نفسي مضطرا لذلك الأسف عندما أتذكر من دروس التاريخ ما يؤكد لي أن المصريين ظلوا مستسلمين لحكامهم العسكريين من غير المصريين سواء كانوا مماليك أو عثمانيين، ويزيد أسفي عندما أتذكر أن هذه المنظومة الحاكمة دخلت مصر عبر دول الخلافة الإسلامية المتعاقبة على دول المنطقة، ومن خلال فكرة مقدسة اسمها الأمة الإسلامية الموحدة، لم يستفد منها المصريون سوى ترسيخ روح الطاعة للحاكم الفاشي العسكري، وحتى عندما كان يضيق بهم الأمر ويثورون عليه يسارعون بالبحث عن عسكري آخر بديلا لمن ضاقوا به، وللأسف مرة أخرى عندما تخلص المصريون من الحكم العسكري العثماني بثورة على النظام الملكي وتحرروا من أسر الدولة العثمانية الأجنبية لم يستوعبوا فكرة الحكم المدني الشعبي فنصبوا العسكر حكاما عليهم، وبعد أن كانت مصر يحكمها فاشية عسكرية أجنبية، أصبح يحكمها فاشية عسكرية محلية تحت راية الحكم للشعب، وفي الحالتين كان الشعب في أسوأ حال يعاني من التهميش والاضطهاد والاستغلال والقمع.

والحكم الفاشي العسكري يحمل مواصفات واحدة سواء كان أجنبيا أم محليا، فطبيعة التكوين العسكري المقتحم للحياة السياسية تتميز بأنها ذات مواصفات قياسية عالمية موحدة لا فرق فيها بين فاشي أجنبي وفاشي محلي.

المماليك

جاء دخول العسكر المماليك مصر من خلال الخليفة العباسي أحمد بن طولون عام 877 م كجند من الأتراك يدعمون ملكه وخاصة أنه كان تركي الأصل، ورحلة تغلغل المماليك في مصر وتحولهم من جنود مماليك إلى حكام لها ودولة، رحلة طويلة ليست موضوعنا الآن، إلا أن الشعب المصري قبل هذه الصيغات من البداية مثل الكثير من دول المنطقة تحت راية الخلافة الإسلامية وحتى المماليك في مصر وغيرها رفعوا نفس الراية  وأنهم ظهروا بقوة في فترة حرجة من تاريخ مصر باعتبارهم القوى العسكرية المنقذة للإسلام والمسلمين من غزوات المغول 1251 م.

ما فعله العسكر المماليك من تحويل وجودهم إلى ضرورة حتمية لإنقاذ المجتمع من مخاطر شديدة تهدده هو ما يفعله كل العسكر، في علاقتهم بالهيمنة على الحكم والتبرير لوجودهم كحكام، حتى الآن وسواء كانوا عسكرا أجانب أو محليين، وأصبحت صيغة المنقذ من المخاطر هي الصيغة المعتمدة لحكم العسكر والمبرر والذريعة له، وبصرف النظر عما إذا كانت هذه المخاطر حقيقية أو مصنوعة، ورغم هذه الدعاية شهدت فترة حكم المماليك منحنى هبوط في مظاهر الحضارة الإسلامية خلال حكم المماليك، وفي مصر كان وجود المماليك في الحكم مرتبطا بالفساد والقهر والنهب والاستغلال في معظم الأوقات، وأذكركم أن سيرة أهل البلد الأصليين وأقصد المصريين لم ترد كثيرا كقوى مؤثرة في كتابات المؤرخين إلا في اللحظات التي يكون هناك مخاطر خارجية وهنا فقط يتصدر المصريون المشهد في الدفاع عن الوطن وصد المخاطر الخارجية وبعدها يتسلم الأجانب من الأتراك والمماليك الحكم تحت راية الدولة الإسلامية!!

العثمانيون

أزاح العثمانيون المماليك من حكم مصر ثم تشاركوا معهم في نهبها وحكمها عبر جولات وأحداث تفاصيلها كثيرة وأيضا ليست موضوعنا، ما يهمنا أن هذا كله تم دون ذكر أي دور لأهل البلاد الأصليين من المصريين وتحت راية الخلافة الإسلامية، وحتى المشاهد التي ظهر فيها المصريون مشاهد خارج حدود المنطق الإنساني الطبيعي، فمشهد تجد فيه المصريون يهتفون لمحتل مملوكي أزاحه محتل عثماني وقتله (طومان باي) واعتبره الشعب من بعدها وليا من أولياء الله ونصبوا حوله الأساطير والروايات في الوقت نفسه خضعوا للحكم العثماني في صمت واستسلام، ومشهد يظهر فيه المصريون كمقاوميين للاحتلال الفرنسي وقدموا شهداء وقصص البطولات النادرة، وفي المشهد يرفضون حكم الوالي العثماني ويتحدون الخليفة العثماني ويرفضون الابتزاز الديني لدفعهم لقبول قرار الخليفة باعتباره من ولي الأمر، وفي نهاية المشهد يقدمون أنفسهم رعايا لأجنبي آخر ويرفعونه إلى كرسي الحكم على أكتفاهم ليكون استبدال محتل بمحتل هو النتيجة النهائية لنضالهم وجهادهم.

وحتى بعد ذلك بسنوات عندما أراد المصريون التحرر من الاحتلال الإنجليزي فكر قطاع منهم في الاستعانة بالألمان واستبدال المحتل الإنجليزي بمحتل ألماني!!

ما علينا لم تكن مساوئ الاحتلال العثماني بأقل من مساوئ الاحتلال المملوكي فتشاركا في كل أوجه الفساد والاستغلال والقهر والبطش وشهد المصريون مذابح بشعة راح ضحيتها الآلاف من المصريين نتيجة إرهاب وبطش العثمانيين، ولم يحرك ذلك المصريين الذين كانوا واقعين تحت تأثير قدسية دولة الخلافة!

وعندما تخلص المصريون من الحكم العثماني سلموا الحكم للألباني المملوكي محمد على تحت مظلة حكم الخلافة العثماني، ومحمد على معروف في كتب التاريخ بأنه رائد النهضة والدولة المصرية الحديثة، إلا أن الأمر لا يتعدى مقارنة نسبية بين وضع البلاد في ظل حكم محمد على الذي كان يرغب في صناعة إمبراطورية قوية يكون على رأسها وبين الانهيار الذي كانت فيه مصر فترة الحكم العثماني والمملوكي، والحقيقة الموازية أن محمد على كان لا يقل بطشا وفسادا واستغلالا للمصريين من السابقين، ورغم ذلك مجده المصريون واطاعوه وعندما غدر بقيادتهم الشعبية لم يثوروا عليه وظلت دولته تحت حكم وهيمنة أحفاده أكثر من مائة عام!!

وبعد الحرب العالمية الثانية وتغير خريطة العالم وانتهاء عهد الهيمنة الاستعمارية وضعف الدولة العثمانية وظهور رياح حركات التحرر الوطني، طالت هذه الرياح مصر فتصاعدت حركة المعارضة الشعبية ضد الاحتلال الإنجليزي وحكم الأسرة العلوية، وانتهت بركوب الجيش لها وقيادته لحركة الرفض المصري لحكم أحفاد محمد على وطرد الملك فاروق، واستكمل المصريون مأساة التماس الأمن والأمان من الحكم العسكري، واستبدلوا حكم الفاشية العسكرية الأجنبية بحكم فاشية عسكرية محلية، وأيضا بذرائع ومبررات تتعلق بالمخاطر التي تحيط بالبلاد والمؤامرات التي يدبرها أهل الشر، والتي كثرت في هذه الفترة بطريقة مرعبة دفعت الشعب المصري للخروج إلى الشوارع مطالبا بحماية العسكر وبقائهم في الحكم!!

وأدوات العسكر واحدة سواء كانوا عثمانيين أو مماليك أو محليين وتعتمد على خلق الضرورة لوجودهم من خلال صناعة أحداث تهدد استقرار البلاد وأمن الناس، ربما جزء منها حقيقي ولكن غالبيتها مصنوع، وهذا يفسر عدم مرور مصر بفترة استقرار أمني واقتصادي طوال حكم العسكر، فلو حدث هذا الاستقرار زال المبرر لوجود حكم العسكر، ولهذا إن لم يكن هناك مخاطر طبيعية لتبرير وجود العسكر واستمرارهم في الحكم فمن الطبيعي أن يلجأ أصحاب المصلحة من الجنرالات إلى تخليق مخاطر صناعية حتى لو راح ضحيتها الآلاف من المصريين. حكم العسكر ليس من أدواته الديمقراطية والوعي السياسي والمشاركة الجماهيرية، بل حكم يعتمد على قيادة البلاد بمنطق القائد والتابع وتقديس الأوامر واعتبار الحاكم نصف إله ومعارضته دربا من دروب الكفر، وهذا ينقلنا إلى تفسير رفض حكم العسكر والتفرقة بين الاتفاق على أهمية وجود جيش وطني قوي كدرع حام للبلاد باعتباره مؤسسة من مؤسسات الدولة المدنية، والاتفاق على رفض اقتحام قيادات المؤسسة العسكرية للحياة السياسية واستيلائها على الحكم وإخضاع الدولة للمؤسسة العسكرية، بدلا من الوضع الطبيعي الذي تكون فيه المؤسسة العسكرية مؤسسة من مؤسسات الدولة في خدمة الشعب لا أن يكون الشعب في خدمة العسكر، ومن هنا كان شعار يسقط حكم العسكر شعارا سياسيا يحمل محتوى وطنيا وليس عداء للمؤسسة العسكرية التابعة لدولة الحكم المدني كما يحاول أن يصوره البعض.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه