أحمد قناوي يكتب: في دلالات الغياب

ترك الجماهير لقضاياها أفضل من تأطيرها في قالب سياسي فالأوضاع الراهنة بذاتها تفضي لمزيد من الإبداعات الخلاقة لمواجهة القمع وكبت الحريات وغياب الشفافية وشيوع الفساد

أحمد قناوي*

لم يكن أحد ممن رغبوا في إظهار كارثية المناخ السياسي يتوقع أن يكون الإقبال على انتخابات مجلس الشعب بهذا الحجم من التدني الجماهيري، كان أكثر الرافضين لهذا المناخ بجملته يتوقع إقبالاً ضعيفًا يصل إلى 15% من الناخبين، لكن النسبة وصلت على لسان رئيس نادي القضاة بالوكالة إلى 2% في اليوم الأول و6% في اليوم التالي وشرح الرجل متهكمًا أنه لا تجاوزات في الانتخابات لأن لا أحد حضر، هي صادمة ليست فقط لأصحاب القرار هي صادمة كذلك حتى للذين رغبوا في المقاطعة ونادوا بها، فهذا الغياب العمدي للجماهير بحاجة إلى التفكير في دلالاته.

الأسباب والمحاذير:

لعل أحد أهم الأسباب أن النظام تعامل مع فكرة انتخابات مجلس الشعب كأمر بدا أنه مفروض عليه لا راغبًا فيه، ذلك أن موعد هذه الانتخابات وفقًا لخارطة الطريق التي أعلنت عقب 3/ 7 كان يتعين أن يتم منذ أكثر من عام، وتم الإعلان أكثر من مرة عن انتخابات مجلس الشعب بعد شهرين (قبل رمضان، قبل العيد) بتواريخ ظهر جليًا أنها مجرد رد على الاستحقاقات وليست انعكاساً لهدف، وهو ضرورة وجود مؤسسة تشريعية منصوص عليها في الدستور، وهو جزء من كيان أي دولة قانونية، فإذا كان هذا هو التفكير وتلك هي الرغبة الحقيقية فإن إحاطتها بسياج قانوني وتشريعي يجب أن يسبق إجراءاها، وبالتالي صدر أغرب قانون انتخابي عرفته مصر خليطًا بين الفردي والقائمة والأخيرة ليست نسبية وإنما مطلقة، وتضم القوائم كوته للنساء وكوته للمرأة، وتتسع الدوائر ثم تضيق بلا مقتضى، ويصدر قانون للدوائر يتم استدراكه في عدد للجريدة الرسمية ليس ممن أصدره باعتباره أنه تعديل ولكن يصدر الاستدراك من رئيس الوزراء غير المختص أصلاً بتعديل أي قانون، دعنا حتى من المناخ السياسي الإقصائي، فحتى لم يُجرَ حوارًا حول قانون الانتخابات مع الكيانات والأحزاب التي أعلنت منذ 3/ 7 تحالفها مع النظام، لم يُجرَ حتى هذا الحوار الضيق وبدا أن قانون الانتخابات وما ارتبط به من قوانين أخرى فرضًا مكتوبًا على الجميع الانصياع له.

لا يستطيع أحد أو قوة أن تنسب هذه المقاطعة لنفسها أو لجهدها، وربما هي المرة الأولى التي لم يستطع النظام – وهو محق – نسبة ذلك إلى الإخوان لأن الأمر بدا أكبر من قدرة أي شخص أو تنظيم، حتى نسبة ذلك إلى مجرد تغريدات للدكتور محمد البرادعي يبدو أيضًا أنها غير حقيقية، قد يكون أحد الأسباب لكن الأهم من كل ذلك أن العملية بكل ما يحيطها من مناخ عام كانت هي السبب الرئيس. ولعل ذلك ما أظهر حالة من الارتباك الإعلامي وتصريحات المسئولين والتي بدت من وقع الصدمة والذهول مثيرة أحيانًا للضحك وفي كثير من الأحيان للسخرية، وليس هذا مقام تعداد ذلك ولا تبيانه.

الحضور في الأسهم والغياب في الانتخابات .

في الانتخابات كانت حشود الجماهير التي تحركت في 30/ 6 حاضرة للمشهد وقت أن تم طلب ذلك وكان تجاوب الجماهير مع الدعوة لشراء أسهم تفريعة القناة مذهلاً، كل ذلك كان في مخيلة الرجل وهو يطالب الجماهير للاحتشاد أمام اللجان الانتخابية، كانت خلفية المشهد الماضي تعطي انطباعًا بدا أنه كاذب وأن الجماهير ستلبي النداء، فقد سبقت وفعلتها مرتين، وكان التفكير الأكثر لدى دوائر السلطة كيف يكون توزيع المقاعد يستحوذ على الاهتمام أكثر من حضور الجماهير فهي مسألة منتهية. لكن ما حدث مقاطعة شبه جماعية للانتخابات، ودلل ذلك على أن كل ما حضر سابقًا في 30/6  كان بهدف إقامة نظام ديمقراطي استحال إلى نظام استبدادي، وأن من حضر لشراء أسهم تفرعية قناة السويس  كان بدافع البحث عن مجرد عائد على الفائدة أكثر مما تمنحه البنوك، ثم وهذا هو الأهم كان الغياب تسجيلاً لغياب الثقة فيما أعلن عن مشروعات مثل تفريعة القناة، مثل العاصمة الجديدة، مثل زراعة مليون ونصف فدان، كان كل ذلك سحبًا للثقة العامة في الأداء، حدث ذلك كثيرًا في عهد مبارك على سبيل المثال لكن لم تصل نسبة الغياب الأقرب للعصيان إلى تلك النسبة في جميع الانتخابات حتى تلك التي أجريت في عهد الاتحاد الاشتراكي العربي.

سقوط حجة الإخوان والإرهاب

 حدث ما كان مطلوبًا، عدد من الأحزاب قاطعت الانتخابات فضلاً عن جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم سقطت أداة من أدوات الشحن الإعلامي التي حدثت في مناسبات مماثلة، لم نسمع (إذا لم تذهب للجنة سينجح الإخوان) ولم نسمع إذا لم تذهب للتصويت (سينجح الخونة والعملاء والممولين وأصحاب المؤامرة)، وبالتالي تعامل الشعب مع الانتخابات بدون محفزات تخويف وترهيب وتغيرت لهجة الإعلام (محدش يسأل على وظائف ولا معاشات)، كل هذا يعطي أيضًا دلالة هامة أن النظام استطاع استخدام الإخوان كمبرر لحشد الجماهير ربما هذا لا يعنينا بقدر ما يعني جماعة الإخوان ذاتها، فمهما كبرت الجماعة أي جماعة واستطاعت أن تحيط نفسها بسياج من السرية والانغلاق كان من السهل النيل منها إعلاميًا في مواجهة شعب، هذه وغيرها تخص جماعة الإخوان إذا كانت راغبة في إعادة القراءة.

يعكس ذلك أيضًا أن ترك الجماهير لقضاياها المباشرة أفضل من تأطيرها في قالب سياسي لتنظيم أي تنظيم، فالأوضاع الراهنة بذاتها تفضي وستفضي على نحو أكثر لمزيد من الإبداعات الخلاقة لمواجهة القمع وكبت الحريات وغياب الشفافية وشيوع الفساد.

الشعب أكثر وعيًا من نخبته:

ما حدث يدل أيضًا أن هذا الشعب أكثر وعيًا من نخبته المبعثرة على قضايا هامشية، المتلاحقة في معظمها على فتات قد يلقي إليها، ولعل أبرز ما يمكن التأكيد عليه أن طليعة هذا الشعب المقاطع كان الشباب، في الاستفتاء على دستور 2014 كانت الكاميرات تبحث وسط الطوابير على الشباب وفي انتخابات الرئاسة الأخيرة كانت الكاميرات أيضًا تبحث عن الشباب وفي الانتخابات البرلمانية تلك كانت الكاميرات تبحث عن مجرد الطوابير فلا الشباب ولا الناس، ربما ما يمكن قوله والتأكيد عليه أن قادة المرحلة القادمة يجب أن يكونوا من وسط تلك الأعمار من وسط هذا القطاع الواسع، بقاء الأمر محصورًا في تلك النخب التي شاخت على أعتاب السلاطين لن يجدي نفعًا، تلك النخب التي تجاهلت مثل السلطة تمامًا غياب الشباب عن الاستفتاء وغيابهم عن انتخابات الرئاسة ومضي معظمهم في طريقة يحوم حول مغنم محدود، حتى كانت رسالة الغياب مدوية بأكثر من أي رغبة لاستبعاد دلالتها.

ما بعد الغياب

 جاء الغياب الشعبي العام عن الانتخابات البرلمانية في ظل أزمة اقتصادية وصلت إلى مستويات قياسية، ويبدو أن النظام حزم أمر انحيازاته الاجتماعية بوضوح حين أعلن في تصريحات عامة وعلنية بعد أن كان في تسريبات يمكن نفيها (الشعب مش حيقب إلا برفع الدعم) وهى عبارة متناغمة مع جملة وردت في التسريبات (إلى عاوز خدمة يدفع)، ففي الوقت الذي كان يجب استرضاء من غاب هو ذاته الوقت الذي أعلن فيه عن ضرورة رفع الدعم، فالتصريح جاء بعد انتخابات الجولة الأولى، وهو أمر يمثل نهاية مطاف اجتماعي ونزعًا لفتيل الصبر الشعبي، لا أحد يمكن أن يتنبأ بما يمكن حدوثه إذا استمر التراجع الاقتصادي وغلاء الأسعار مع رفع الدعم، الذي يمكن تصوره أن بقاء الأوضاع على ما هي عليه بات أمرًا صعبًا ويحتاج إلى تكاليف اجتماعية لا يتحملها الفقراء الذين يشكلون أغلبية الشعب المصري.

_________________________

*كاتب مصري ومحام بالنقض

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه