أحمد قناوي يكتب: الجباية والقمع

أحمد قناوي*

 هل الجبابة والقمع ثنائية متلازمة ؟ وحين يوجد القمع توجد الجباية؟
 من المهم في البداية أن نُعرِّف القمع وهو اعتماد السلطة – أي سلطة – في فرض رؤيتها بقوانين جائرة تشرعن التضييق على حرية التعبير والحريات العامة وتضع عقوبات مقيدة للحريات جزاء  للخروج  عن نسق وضعه النظام . والجباية هي اعتماد النظام على دخل للموازنة العامة يأتي عن طريق فرض ضرائب ورسوم جديدة، ورفع الأسعار للسلع والخدمات دون اعتماد على منظومة كاملة للتنمية هدفها تعظيم الدخل الفردي والقومي بعيدًا عن جيوب الأفراد.
يحاول البعض أن يقدم نماذج عرفت القمع وفي ذات الوقت عرفت التنمية كالصين وسنغافورة، فهما استثناء لا ينافي القاعدة العامة؛ فضلاً عن أن هاتين الدولتين تشيع فيهما روح المنافسة المتكافئة بين الأفراد والشركات مما يقلل من آثار القمع على الاقتصاد.
الفساد يحكم

غير أنه أصبحت قاعدة تشبه القانون أن القمع والاستبداد ومنع حرية التعبير وحرية الإعلام وتداول المعلومات يخلق بيئة حاضنة للفساد  تصل إلى حد الدفاع عنه، وتصل في بعض الأنظمة إلى درجة أن الفاسدين هم من يحكمون ويشرعنون ويوجهون الاقتصاد، وهي دول وأنظمة تكتب بنفسها شهادة نهايتها، ، فكيف لمستثمر مثلاً أن يأمن على أمواله في ظل روح احتكارية وعدم سهولة في الإجراءات ثم تحصيل مقابل قد يسمى رشوة أو رسوم أو حتى مجرد عرقلة بيروقراطية؟! كيف يأمن مستثمر على أمواله إذا لم يتح للإعلام انتقاد صاحب سلطة ونفوذ منافس وتسليط الضوء على انتهاكه للقانون؟ كيف يأمن مستثمر على أمواله في مجتمع لم يستقر سياسيًا ولأنه كذلك فهو يعتمد الكثير من الإجراءات الاستثنائية بشكل لا يكون متوقعًا معه ماذا سيكون الحال بعد عام أو حتى بعد أشهر معدودة؟
حين يتحقق للقمع والاستبداد تلك الحالة من الهيمنة التي يتبعها حالة عامة من الفساد فإن الحديث عن التنمية يصبح لغوًا لا قيمة له، وحين يحدث كل ذلك فإن معدل التنمية بكل تأكيد ينخفض ومعدل دخول الأفراد تنخفض مع بقاء التزامات الدولة أو النظام على حالها فيما يتعلق بدورها في الصحة والتعليم والإنفاق الاستثماري، وهي أمور يتم التضحية بها فتتضاءل أرقام الميزانيات العامة في تلك الجوانب ورغم هذا التضاؤل يبقي هناك فارق كبير من الواجب والحتمي تغطيته، ولا يتم ذلك إلا بمزيد من فرض الضرائب الجديدة والرسوم الجديدة مع رفع كامل للأسعار والسلع والخدمات.

ربما هذا ما ينطبق تمامًا على الحالة المصرية وهي التي أصبحت نموذجًا لثنائية القمع والجباية، على سبيل المثال تفريعة قناة السويس لم يسبقها تداول رأي عام علمي واقتصادي في وسائل الإعلام والوسائط المعنية بتداول المعلومات، وإنما سارت الأوضاع على طريقة (مشروع عظيم) وكأنه درس الصباح في طابور المدرسة الذي يلقي على الطلاب بطريقة التلقين، النتيجة أنه تم سحب مليارات من الجنيهات في البنوك المصرية للمشروع وبعد أشهر طويلة ظل وسيظل دخل قناة السويس على معدله العادي والطبيعي، ومن ثم فإنه حتى بتقدير جدوى المشروع – وهو لم يقدر بأي جدوى من مؤسسات علمية محترفة – فإن فكرة الأولويات في اتخاذ القرار الاقتصادي منعدمة، وهي كذلك لأن واحدة من أهم شرائط التنمية – وهي حرية التعبير – غائبة، ومن المؤكد أن تلك الحرية لو كانت حاضرة، كنا سمعنا عن أراء فنية بحتة، عن أراء اقتصادية بحتة وعن دراسات جدوى حقيقية، لكن ما سمعناه عبر وسائل الإعلام المختلفة ما حاجتنا إلى دراسات جدوى عاوزين نشتغل!!، هذه عبارة كررها واحد من المكلفين ببعث رسالة المرحلة عبر وسائل الإعلام المختلفة.
تسطيح العقول

افتقاد خريطة واضحة المعالم للتنمية في مصر، لم يأتِ عن قصور بل ربما أتى عن قصد، فالأهم هو تسطيح العقول وبث هزل عام أصبح يشبه الهستيريا، وهو ما جعل الوعي العام والشعبي يقابل ذلك بمصطلح (الكفتة) نسبةً إلى ذلك اللواء الذي أعلن وسط كوكبة من رجالات الدولة عن اختراع للإيدز وجملة أمراض أخرى، وأصبح التعليق الذي يتسع تداوله على أي مشروع عام (كفتة) وهو ما يعني – دون الدخول في أى تفاصيل – أنه الوهم عينه والوهم ذاته الذي صاحب الإعلان عن اختراع علاج لمرض الإيدز.
والقمع قاطرة التسطيح وقاطرة الهزل، والراصد للمشهد العام يستطيع بسهولة أن يتحقق من ذلك، فهناك إعلامي محسوب على النظام ويعد أهم مسوق لرؤيته يقدم للمشاهدين لعبة فيديو على أنها غارات حقيقية للدور الروسي في سوريا، وتتناقل وسائل إعلام عالمية تلك الفضيحة، فالعالمية لا تعرف طريقها إلى أمثال هؤلاء الإعلاميين إلا إذا ارتبطت بفضيحة، لم تعتذر القناة ولم يعتذر الإعلامي واستمر كل شيء على ما هو عليه ومخطط له،وخبير إستراتيجي – كما يقال – يتصور أن الرباعية التونسية التى حصلت على جائزة نويل للسلام مجرد سيدة ، وآخر يري أن سد النهضة سينهار وحده وسوف تستمتع مصر بعشرات الأضعاف من حصتها في مياة النيل !! توازى مع ذلك شيوع ثقافة السب والقذف في الإعلام للأشخاص والكيانات وبات هذا الشيء المقزز أمرًا عاديًا، بل إن الجمهور تفاعل مع ذلك حيث سجل موقع اليوتيوب الشهير أعلى مشاهدة لمنتج سينمائي ينعت إعلاميًا بوصف لا يمكن تسطيره بل إن حالة الاحتفاء العامة بهذا الوصف بلغت مدى يؤشر على نظرة الناس وبالأخص قطاع الشباب منهم على الإعلام وما يبث من خلاله.
كفتة

المتابع للحالة المصرية سيصل إلى نتيجة مؤداها أن دعم الميزانية من الواجب تمويله، وليس هناك قطاع أوسع من الفقراء، ومن ثم تم رفع العديد من أسعار السلع، وفرض ضرائب جديدة على المسافرين بالخارج والتفكير في رفع الجمارك على العديد من السلع، كان قد سبق ذلك رفع أسعار المحروقات والغاز والكهرباء، مع إصدار قوانين تبيح التصالح في جرائم المال العام، ويجري الحديث عن مشروعات كبيرة أخرى يضيفها الكثير إلى حزمة المشروعات التي لم ترَ النور ” استصلاح مليون ونصف فدان والعاصمة الجديدة ” يذكر كل ذلك ويعلق عليه بالتعبير الشعبي الذي أصبح متداولاً (كفتة)، ويأتي كل ذلك في سياق الإعداد لانتخابات برلمانية، تم تأجيلها مرات عديدة برغم مخالفة ذلك لخريطة الطريق التي سبق إعلانها، وهى انتخابات يشير الكثيرون أنها ستنتج برلمانًا أسوأ من برلمان 2010، وهى أقرب إلى الاختيارات المعلبة، والتي أصبح واضحًا فيها أن شروط المعلب وضعت لمتنافسين مختارين، وأن شروط المعلب السياسي البرلماني ليس الرقابة وهو الدور الأساسي لأي برلمان وإنما إقرار ما صدر من قوانين تجاوزت الإسهال التشريعي إلى السيولة التشريعية، وبالتالي فإن المجلس القادم سيضيف احتقانًا لا حلحلة، وسوف يكون مجلس 2010 الذي كان سببًا رئيسيًا في الثورة على مبارك حاضرًا مع فارق أن الأخير كان في مناخ أفضل ومشاركة أوسع، مما يجعل مد الخطوط على استقامتها تتقاطع مع ميدان التحرير مرة أخرى، قد لا تكون بالضرورة بوتيرة أسرع أو مماثلة لما حدث في 2011 ولكن ستكون إضافة كبيرة لوضوح رؤية ظلت لدى قطاع طامع أو طامح أو مغيب برغبة أو بفقدان وعي.
كل ذلك يشير إلى أن الحالة المصرية جسدت كأروع مثال التلازم الواضح بين القمع والجباية، وهي حين تشير إلى ذلك فإنها لا تضع خواتيم قصة وإنما تشير إلى أن القصة تحتوي فصولاً كثيرة قد يكون منها المثير والمفاجئ، لكن في كل الأحوال نهايات القمع والجباية لا يمكن أن تكون سعيدة.
_________________________

*كاتب مصري ومحام بالنقض

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه