4 جمهوريات .. وبينها فاصل إخواني

 

 

منذ الغاء الملكية في مصر، وإعلان الجمهورية في 18 من يونيو/حزيران 1953، تعاقبت أربعة أنظمة رئيسية على الحكم، والنظام الخامس كان أقرب إلى الفاصل السريع، فلا هو نظام بمعنى الكلمة، ولا عهده يمثل جمهورية كاملة يمكن أن تُنسب إلى رأسها، مثل جمهوريات ثلاث استمرت سنوات، ورسخت نفسها، والرابعة في هذا الامتداد تواصل الحكم، وتُثّبت وجودها أيضاً.

هذا ليس مقالاً في تاريخ الجمهورية في مصر، إنما مجرد اجتهاد لفهم المسار الاجتماعي، والديمقراطي لدى كل نظام حكم مصر، وتربع على عرشها سنين عدداً، ومحاولة التحليل وتلمس بعض ملامح هذين المسارين الحاكمين لصورة كل جمهورية أو نظام.

رؤساء أساسيون.. وعابرون

في تاريخ الجمهورية المصرية هناك خمسة رؤساء أساسيين، وهم: عبدالناصر، والسادات، ومبارك، واليوم السيسي، والرئيس الخامس الذي يمثل فاصلاً سريعاً بينهم هو محمد مرسي، فهو الأقصر حكماً (عاماً واحداً فقط)، وأطولهم مبارك (30 عاماً)، ويليه عبدالناصر (16 عاماً)، والسادات ( 11 عاماً) والسيسي ( 5 أعوام، والمدى الزمني لا يزال مفتوحاً أمامه).

 وهناك خمسة رؤساء مؤقتون، أو انتقاليون، أو شكليون، أو عابرون، اختلفت مددهم في إدارة الدولة، أطولهم حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري الحاكم بعد ثورة يناير2011 ( 16 شهراً ونصف الشهر)، يليه عدلي منصور ( عام إلا شهراً)، وثالثهم محمد نجيب ( 8 أشهر)، ورابعهم صوفي أبوطالب (8 أيام)، وخامسهم والأخير زكريا محيي الدين (يومان فقط).

7 جنرالات و3 مدنيين

حكم الجمهوريات الأساسية 4 جنرالات، ورئيس مدني واحد ( محمد مرسي)، وتم إخراجه من السلطة سريعاً قبل أن تتشكل ملامح واضحة لجمهورية أول رئيس من خارج المنظومة العسكرية التي أطاحت بالملكية، وأسست الجمهورية، ويقودها رئيس بعد الآخر فيما يشبه الحق الحصري، أو الإرث غير المدون.

 

والمفارقة أن بين الرؤساء الانتقاليين أو العابرين ثلاثة جنرالات أيضاً ( نجيب، زكريا محيي الدين، طنطاوي)، لتكون الأكثرية الساحقة للضباط في حكم مصر خلال 66 عاماً منذ إعلان الجمهورية.

الحكم المطلق

هذا التمهيد لأرضية الحكم في مصر خلال مرحلة الدولة الوطنية ذات النظام الجمهوري ما بين الرئيس الجنرال والرئيس المدني، سواء أكان رئيساً أساسياً أو مؤقتاً يجعل تحليل المسار السياسي الديمقراطي لا يحتاج إلى قدح الفكر كثيراً للتوصل إلى استخلاصات واضحة وشبه حاسمة، فالعلامة البارزة أنه مسار حكم الفرد، حكم مطلق غير ديمقراطي، حتى لو ظهرت بجانبه مراكز قوى تنتزع بعض الصلاحيات منه مثل حالة عبدالناصر وصديقه الحميم عبدالحكيم عامر، أو كانت هناك مؤسسات حكم، لكنها تظل شكلية، ولا تقوم بدورها حسب ما جاء في الدساتير المختلفة، وإذا كان بيان حركة الجيش في 23 من يوليو/تموز 1952 – قبل أن تُوصف الحركة بعد أيام بأنها ثورة – تضمن إقامة حياة ديمقراطية سليمة، فإن هذه الحياة الديمقراطية لم تتحقق إما مطلقاً كما في جمهورية عبدالناصر، أو كانت رمزية كما في الجمهوريات الثلاث الأخرى.

فاصل ديمقراطي

 الجمهورية الفاصل هي الوحيدة التي قامت على أساس انتخابي تنافسي واسع لا يستثني أحداً من الطيف السياسي، واتسم عامها الوحيد بحرية بلا سقف إلى حد الفوضى، وبتعرض رئيسها للنقد الموضوعي والشخصي إلى حد هزل هيبة الرئاسة، والجمهورية التي أعقبته تتراجع عن مكسب الديمقراطية الناشئة الذي تحقق بثورة يناير، وعن مطلب الحفاظ على هذه الديمقراطية، وحمايتها من استبداد جديد تخوف من حدوثه فريق ممن  خرج في 30 من يونيو/حزيران 2013، فالمكسب والمطلب كلاهما صارا أثراً بعد عين، وخطوات تعديل دستور 2014 الذي أتم 5 سنوات فقط يطيح بآخر مكسب كان باقياً ومعبراً عن مرحلتي 25 – 30 بكل مالهما وما عليهما من ثورية وتغيير واتفاق واختلاف وجدل لا ينتهي، حتى لو كان مكسباً دستورياً لم يدخل حيز التفعيل والتنفيذ. 

المنطق الثابت الحاكم للجمهوريات الأربع، عبدالناصر، والسادات، ومبارك، والسيسي، أن الديمقراطية لم يأن أوانها بعد، وأن الشعب غير مؤهل لها، وأن الديمقراطية قرينة الفوضى، ورديف لعدم الاستقرار، وأن بناء الدولة أكثر أولوية من بناء الديمقراطية، وأنها وصفة حكم فيها ترف كبير لبلد يواجه أزمات كثيرة، وهكذا تنتقل البلاد من عهد إلى آخر بنفس الملمح غير الديمقراطي، وبغياب فضيلة التداول السلمي للسلطة حتى لو كانت نتائج هذا التداول معروفة بانتقال السلطة من رئيس إلى رئيس ينتمي لنفس المؤسسة، ويخرج من ذات المنظومة التي تقدم الرؤساء.

هامش الحرية المطاط

ومن الإنصاف الإشارة إلى بصيص من الحرية في عهدي السادات ومبارك، وتظهر قيمته عند المقارنة بما كان عليه الوضع في عهد عبدالناصر، وما يؤول إليه الوضع اليوم، الهامش المحدود من حرية الرأي والتعبير الذي منحه السادات للمصريين عام 1977، ثم ضاق به ذرعاً قبل اغتياله في 1981 – ومن أسف أن نعتبره منحة حاكم، رغم أن الحرية حق أصيل – وجدد مبارك هذا الهامش، وحافظ عليه طوال 30 عاماً، مع بعض التذمر منه أحياناً، والانتقاص منه في أحيان أخرى، هذا الهامش من التسامح والانفتاح والمرونة والمواءمة يظل الميزة النسبية في المسار السياسي الذي ينفرد به العهدان.

وفائدة هذا الهامش المطاط الذي تتحكم فيه السلطة أنه ساهم في التنفيس عن الغضب، وامتصاص الاحتقان، وجعل البركان تحت السيطرة، مع تأجيل انفجاره، لكن مع مواصلة كتم البركان دون مزيد من التنفيس السياسي والديمقراطي الحقيقي فإنه ينفجر وينفث ما بداخله من حمم مشتعلة  كما حصل في 25 يناير، وكانت النهاية سقوط مبارك عن عرشه الطويل، وهي رسالة مهمة يجب قراءتها واستيعابها بعمق خاصة لمن يكرر التاريخ في نسخته الأشد قسوة وانغلاقاً.

 الحكمة والمسؤولية والكياسة تقتضي عدم غلق كل نوافذ التنفس ومصادرة الحريات وحجب النقاش العام، والتصور بأن إطلاق الحريات يعد ترفاً  لا تحتمله المرحلة مخاطره كثيرة وفوائده معدومة، الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي لا يكون إلا بفتح النوافذ على آخرها، وإحياء المسار الديمقراطي هو الترياق الشافي لكل الأزمات مهما كانت تعقيداتها، فهل هناك من يستوعب قبل فوات الأوان؟.

المشروع الاجتماعي

في المسار الاجتماعي الشعبي فإن عبدالناصر يحظى بمكانة مميزة وسط الرؤساء جميعاً في قضية العدل الاجتماعي، وفي الانحيازات الواضحة إلى جانب الطبقات الشعبية والضعيفة والفقيرة وما دونها في السلم الاجتماعي.

وإذا كان حكمه اتسم بالاستبداد السياسي فإنه وازن الاستبداد بالإنجاز الاجتماعي، ومنح طاقة أمل حقيقية لفئات كانت معدومة الأمل، وعمل على بناء طبقة وسطى ضبطت إيقاع وتماسك المجتمع، وساهمت بقدر كبير في النهوض خلال جمهوريته، وهي نفس الطبقة التي امتدت لفترة من الزمن في جمهورية السادات لتحفظ صلابة كيان المجتمع قبل أن تتعرض للضغوط والتفكك، ثم تتعرض لمزيد من التراجع والخفوت في جمهورية مبارك، ثم الأفول في جمهورية السيسي.

 وليست الطبقة الوسطى وحدها التي واجهت هذا المصير المؤلم المؤثر على التركيبة الاجتماعية، وعلى سلامة البنيان العام للمجتمع والدولة، إنما المشروع الاجتماعي كله تقلص تدريجياً، وباتت الأنظمة المتعاقبة بعد عبدالناصر تشتكي منه، وتعتبره عبئاً على الموازنة العامة، وتلقي عليه مسؤولية الخلل والعجز فيها وفي التعثر الاقتصادي بشكل عام، قد تكون هناك وجاهة للإصلاح الاجتماعي بنظرة تسودها العدل والرحمة بالناس، وليس من منطلق النظرة الاتهامية لهم والثأرية منهم، لكن الأهم أن وضع القضية الاجتماعية في قفص دائم من الاتهام هي محاولة للتهرب من الإخفاق في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وغياب رؤية جديدة غير تقليدية لحل المشاكل المزمنة. 

 ولهذا كان شغل الأنظمة الشاغل هو كيفية قصقصة ما تبقى من أجنحة الطائر الناصري الجريح وصولاً إلى ما يشبه وفاته حالياً بالخطوات الدراماتيكية شديدة القسوة مما يجعل المشروع الاجتماعي الحمائي للطبقات والفئات الضعيفة صفحة من الماضي رغم أن هذه المرحلة تحديداً هي أكثر الفترات في تاريخ الجمهورية في مصر الناس بحاجة فيها للدعم الاجتماعي، وتوفير شبكات الأمان لهم، وحمايتهم وتحصينهم وعدم تخلي الدولة عن دورها في هذا المجال، بل يجب تقويته وتعظيمه في ظل السياسات والقرارات العنيفة التي تؤثر بشكل بالغ السلبية على حياتهم ومعيشتهم وقدراتهم على احتمال مصاعب وتكاليف الحياة.

الانحيازات بين الوضوح والغياب

في الإجمال فإن جمهورية عبدالناصر كانت واضحة اجتماعياً، وتقف إلى جانب الناس، ووازنت بهذا البعد تغييب المشروع الديمقراطي، وجمهوريتي السادات ومبارك اتخذتا اتجاهاً فيه نكوص اجتماعي، وكانت انتفاضة 18 و19 من يناير/كانون الثاني 1977 برهان على هذا النكوص، لكنهما تنبهتا وبقيتا في حالة حفاظ على قدر من تدخل الدولة لصالح مواطنيها وتوفير بعض الأمان لهم خشية تكرار الانتفاضة، وهذا القدر من العون والمساعدة كان الكفة الأخرى التي توازن محدودية هامش الحريات  والديمقراطية الغائبة.

 ومثل هذه التوازنات رغم بلادتها صارت اليوم حلماً يتمناه الكثيرون مع وصول المشروعين الاجتماعي والديمقراطي إلى حدهما الأدنى، في مفارقة مذهلة لكون البلاد شهدت حركة ثورية احتجاجية هائلة شعارها الأثير العيش والحرية، ليكون  العائد عيشاً مراً، وحريةً مكبوتةً.

 وأخيراً فإن  جمهورية مرسي القصيرة جداً زمنياً يصعب تحديد ملمح اجتماعي لها حيث لم تأخذ وقتاً كافياً لتقدم نفسها في هذا المسار، ويمكن اعتبارها امتداداً لجمهورية مبارك في الجمود والبقاء محلك سر.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه