يونيو” أقسى الشهور”

(1)

لو كان يونيو رجلاً لكرهته، ليس أكثر من ذلك لأنني لا أقتل. لا أعرف على وجه الدقة متى بدأت (ولا لماذا بدأت) مشاعري السلبية تجاه يونيو؟ ففي عام 1967 الذي حدثت فيه هزيمة 5 من يونيو الكاسرة، كنت لا أزال طفلاً يتعلم الأبجدية، وأذكر (بتشوش غير واقعي) كما يتبقى عادة في ذاكرة الأطفال، أنني سمعت أزيزاً مخيفاً واصطدمت عيوني الواجفة بطائرات متبجحة تحاول الاصطدام برأسي، فقد كانت قريبة من الأرض حتى أنني (بعفوية لا إرادية) انبطحت على الأرض خوفاً، وأنا أضع كفيَّ على أذنيّ، وترسب هذا المشهد في أعماقي بصورة عجيبة، حيث كنت أراني من الخارج وكأنني شخص آخر: كنت أراني أسقط، كنت أراني خائفاً، كنت أراني لا أفهم ما يدور حولي، هكذا كانت “النكسة”، وهكذا ظلت صورتها في عقلي ووجداني كلما جاءت الذكرى أو جرى الحديث عن 5 من يونيو/حزيران، وكلمة حزيران هنا ليست إضافة تعريفية للشهر في لغة أخرى أو أماكن أخرى، لكنها بالنسبة لي تعني “النكسة” ولا شيء سوى النكسة، ولا أعرف هل كانت قصيدة نزار قباني سبباً في ذلك أم لا؟ لأنني لم أعرف القصيدة إلا بعد صارت النكسة واقعاً أعيشه في كل مناحي الحياة، وذلك بعدما كبرت وفهمت بعضاً مما لم يفهمه حكامنا حتى اليوم.

(2)

في “الأرض الخراب” قال إليوت إن “أبريل أقسى الشهور”، لكن شهورنا العربية صارت كلها قاسية، ولا شك في أن يونيو/حزيران أقساها، وأكثرها مهانةً ونكأً  لجراح الكرامة النازفة، فكر السادات بعد نصر أكتوبر ان يضع السكر على مرارة الهزيمة فأعاد افتتاح قناة السويس في 5 من يونيو/حزيران، لكننا نسينا عودة القناة للملاحة وظللنا نتذكر فجيعة الانكسار، ظل 5 يونيو/ حزيران 1967 يوما متجمدا لم يتحرك تاريخنا بعده خطوة جيدة للأمام، حتى أننا عندما ذقنا طعم الانتصار في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 لم ننشغل بالسابع من أكتوبر، ولم نخطط لما بعده من أيام نحتفظ فيها بالنصر، ولم ندفع عجلة التاريخ للأمام، بالعكس أقنعنا الأعداء أن نحلم بالعودة إلى الرابع من يونيو، وكأن العودة إلى ذلك التاريخ هي الخلاص من 5 من يونيو/حزيران. صار فردوسنا المفقود خلفنا لا أمامنا، صرنا نمضي عكس التاريخ، عكس عقارب الساعة، عكس كل شعار رفعناه، عكس كل حرب خضناها، عكس أهداف كل شهيد، عكس العروبة وعكس الإسلام وعكس الإنسانية أيضاً.

(3)

في 5 من يونيو/حزيران قبل عام انتفضت أنظمة عربية، وقررت بعد سنوات من الهوان في حظيرة كامب ديفيد أن تهجر الاستسلام الذليل وتتجاسر على خوض الصراع: من حصار وحروب نفسية وتلويح بالقتال، لكن 5 من يونيو/حزيران لم يجلب للعرب الجديد ولم يسمح لهم بالحظ السعيد، فالحلف الرباعي الذي رفع رايات الخطر لم يحشد قواته لحصار إسرائيل، بل لحصار قطر!. فعلها العرب من قبل ضد العراق، وفعلوها ضد ليبيا، وضد سوريا، وضد اليمن، فالعرب لا يجيدون إلا حصار العرب، ولا يتحمسون إلا لقتال بعضهم البعض.. الدم العربي شرابٌ لذيذٌ للسيوف العربية، ولحم العربي عند العربي شهيٌ ورخيص، حتى أنه صار قرباناً يتقرب به “عَبَدة الأوثان” لآلهة 5 من يونيو/حزيران، مبتهلين لنيل الرضا من سدنة “جيش الدفاع” و”الهيكل البيضاوي”

(4)

في أول 5 من يونيو لم ينفطر قلبي بسبب السياسة، لأن المشهد الساكن في أعماق الطفل المفزوع لم يكن سياسياً بل إنسانياً، فحينها لم يكن لي صلة ولا معرفة بالسياسة ولا العسكرية ولا شؤون الحكم، كان المشهد (ولا يزال) أن تمضي في طريقك على قدميك مرفوع الرأس، أو تسقط مفزوعاً مغمض العينين تسد أذنيك بيديك، لأنك لا تريد (ولا تقوى) أن تبصر أو تسمع ما يعكر لحظتك ويوقف لعبتك ويهدد حياتك ويتركك على الأرض كومة من العجز والخوف، وبسبب هذه المشاعر لم يعد يونيو بالنسبة لي مجرد شهر من اقسى الشهور أو يوم يشير إلى ذكرى الهزيمة، لكنه صار حالة تنتابني مع كل سقوط، ومع كل خوف، ومع كل عجز، ومع كل انحراف عن الهدف، ومع كل انتصار للأعداء بحيث تتمكن طائراتهم من تلويث سمائي وإفساد يومي وإطفاء مصابيح بيتي وطلاء زجاج عيوني باللون الأزرق خشية الضوء.

(5)

كان بودي أن أرتدي معكم ملابس العيد الجديدة، وأحدثكم عن النصر المقبل، وأفتخر معكم بمجدنا العربي، وأبشركم بقرب تحرير القدس وبقية الأرض العربية السليبة، لكن الكذب أخطر من الوجع، وترويج الوهم عون للأعداء في مهمة تخديرنا، لذلك لن أخدعكم بكذبة، ولن أخدركم بوهم، إننا يا ملح الأرض في أسوا حال، لكننا قادرون على تغيير هذا المصير إذا غيرنا الاتجاه نحو الغد، فليس أمام الحالمين بغدٍ أطهر وأجمل وأكرم إلا أن ينفضوا عن إرادتهم وكرامتهم غبار السقوط المهين، وينهضوا يداً بيد لعبور حاجز الخامس من يونيو/حزيران، بدلاً من البقاء مع العاجزين المنبطحين، الكافرين بالمستقبل، ولطم الخدود معهم تحت حائط مبكى الرابع من يونيو.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه