يوم تسقط العواصم

 

(1)

اليوم سقطت القاهرة، وبثت الفضائيات صورة العلم الإسرائيلي يرفرف فوق سارية ضخمة مغروسة في قمة الهرم الأكبر بصحراء الجيزة، ووقف الرئيس الأمريكي يخطب أمام العالم مؤكدا أن الحق عاد لأصحابه، فبعد قرون من خروج العبرانيين هاربين من ظلم المصريين، نجحوا اليوم في تحقيق العبور المعاكس واستعادة حقوق أسلافهم بناة الأهرامات.

(2)

ماذا سيفعل المصري في ذلك اليوم؟

على العراقي أن يسأل نفس السؤال يوم دخول إسرائيل لعاصمة نبوخذ نصر والانتقام من أهوال السبي الأول، وعلى السوري أن يتخيل تلك اللحظة التي ترفرف فيها نجمة داود فوق مئذنة الجامع الأموي، وعلى اللبناني أن يتذكر يوم يتكرر الاجتياح الصهيوني ويدوم؟، وعلى الأردني وعلى السوداني وعلى كل مواطن في جزيرة العرب أن يتخيل حاله وحال بلاده في تساقط العواصم التي بات سقوطها وشيكاً، بل وسقط بعضها بالفعل حتى لو لم يتم الإعلان عن ذلك…

حينها ماذا سنفعل يا عرب؟.. ماذا سنفعل يا مسلمين؟.

(3)

السؤال ليس افتراضا خياليا، لكنه سؤال واقعي جدا، سؤال يقوم على خطط معلنة تنفذها إسرائيل بدعم مباشر من الغرب مهما تنوعت مراكز الدعم بين لندن وواشنطن وعواصم غربية أخرى، وبنظرة سريعة على ما حدث لخارطة العرب في عمرنا القصير، يمكن أن نرى المسار الذي تمضي فيه جيوش العدوان على طريق “التوسع المغولي المعاصر” وهي تلتهم بلداننا قطعة قطعة، راجعوا مثلا خارطة الأرض في فلسطين من نهايات 1917 عندما أعلن بلفور وعده لليهود، وحتى نهايات 2017 عندما أوفى ترامب بوعده ووعود ثلاثة رؤساء أمريكيين من قبله، بتسهيل ابتلاع إسرائيل لأكبر وأصعب قطعة في كعكة أرضها الموعودة، وحدودها المنشودة، التي تمتد من الفرات إلى النيل وتزيد.. بالتأكيد ستزيد هذه الحدود ولن تكون لها نهاية طالما مثل هذه العصابة مستمرة، لأن “وحوش الأرض” عادة يصابون بالسعار مع أول قضمة لأرض الغير، ولا يعترفون بأي حدود لجشعهم، ويواصلون سيطرتهم المحمومة لقهر واستعباد “الأغيار”؟!

(4)

قبل أعوام قليلة كنت أجلس مع زميل ساداتي في غرفة مكتب ضيقة تضم مكتبين على كل منهما جهاز كومبيوتر وطابعة، ننهمك معا في إعداد ملف سنوي عن حرب أكتوبر، وكان مكلفا بإعداد “تايم لاين” عن أهم المحطات في مسيرة السادات (قائد العبور)، وفجأة وجدته يخلع سماعة الرأس، ويكرر مشاهدة لقطة واحدة، عرفتها من تكرار الصوت، حتى شعرت بالتوتر، فصرخت عاتبا: ما تخلصنا وبلاش توتر، لكن الزميل كان واجماً ولم يبدُ عليه أنه استمع إلى صرختي، أو لاحظ توتري من تكرار نفس المقطع، ثم تمتم بصوت مسموع: أنا عمري ما شوفت أحقر من كده!

(5)

شعرت بالدهشة والفضول، بالطبع لم ينتابني أي شك في أنه يوجه عبارته لي، فهو شخص هادئ ومهذب، وليس من النوع الانفعالي أو المتهور، فسألته: فيه إيه؟.. مين اللي حقير؟

لم يرد على السؤال، لكنه أضاف بصوت منكسر مشحون بالأسى: الظاهر الواحد عاش مخدوع في كل حاجة.. احنا كنا كده.. طب وآخرتها؟!

قمت من مكاني، وذهبت إلى حيث يجلس، نظرت في شاشة الكمبيوتر، فوجدت مقطع فيديو للسادات وبيجين في كامب ديفيد يتوسطهما الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، ضغطت على علامة تشغيل المقطع( يمكن مشاهدته مترجما في هذه النسخة https://www.youtube.com/watch?v=y4GV7LO-8IY ): كانت الجملة المقصودة يشكر فيها بيجين الرئيس كارتر قائلا: لقد بذل مجهوداً كبيرا يفوق ما بذله أجدادي في بناء الأهرامات”.. أي أن بيجين كان يوثق في محفل عالمي معلومة أن أجداده هم بناة الأهرامات بينما السادات يقهقه ضاحكا من غير أن يبدي أي ملاحظة أو اعتراض، وفي النهاية يحتضن بيجين بكل سعادة وابتسام، ومع مشهد الاحتضان كرر الزميل عبارته المريرة في كلمة واحدة: حقير

(6)

مرت سنوات على ما حدث في تلك الغرفة الصغيرة، وخلالها لاحظت أن صدمة الاكتشاف غيرت وعي زميلي بالقضية الوطنية تماما، ونقلته بشكل حاد من صف الانحياز الأعمى للأنظمة والرؤساء ودعاوى السلام، إلى صفوف المعارضة ومقاومة التطبيع، وربما يكون زميلي قد نسى تلك اللحظة العابرة التي أدت إلى ثورة الوعي التي غيرت حياته.. فالموقف كله لم يستغرق أكثر من ربع الساعة لكنه أثر في مسار حياته بقية العمر، لكنني كثيرا ما أسترجع المشهد بتفاصيله، وأتذكر عبارته المصدومة، وأسمع بأذني شريط الصوت الذي كان يكرره غير مصدق، وأستعيد تكثيفه لمشاعره الغاضبة في تلك الكلمة الواحدة: “حقير”، وأتعهد أمام نفسي بأنني سأكتب يوما عن هذه اللحظة، وعن هذا الكتشاف الصادم، وعن تلك الخديعة التي قد تؤدي إلى أن شعبا كاملا يجلس هادئا مثل السادات، ويضحك غير عابئ عندما يأتي الصهيوني إلى أرض النيل مدعيا أنها أرض أجداده الذين أنشاوا الحضارة وشيدوا المعابد والأهرامات.

(7)

القدس إذن ليست كل الموضوع، وموقفك من تسليمه أو الدفاع عنها، هو “العينة” التي تكشف عن حقيقة موقفك في ذلك اليوم الذي يسطو فيه الصهيوني على أرضك وتاريخك بمزاعم مصطنعة يقول فيها إنه يسترد أرضه هو وتاريخه هو.

وإذا كان السادات قد تلقى العبارة كمزحة، أو صمت عنها لتمرير صفقة الاستسلام بغير فشل، فإن حال حاكم مصر اليوم، وحال الحكام العرب، ليس أشرف ولا أفضل حالا من السادات، فالحقارة صارت سياسة علنية، والضحكة الفاجرة المتواطئة صارت خيانة تجد من يبررها ويدافع عنها باعتبارها حكمة، بل تجد من يرى التعاون مع الصهاينة حماية للبلاد من “الإرهاب الإسلامي”…!

وأكتفي عند هذا الحد، لأن الحقارة الرسمية ستدفعني حتماً لعبارات غاضبة تتعارض مع أخلاقيات النشر العام، لهذا أراهن عليكم في استكمال المقال باللغة والكلمات التي تناسب هذا المستوى من الحكام وكبار المسؤولين عن الأمة

سكت الكلام.   

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه