يحدث في “غرفة النجمة”

 

(1)

شعر القاضي باليأس من تحقيق العدالة في بلدٍ يفلت فيه القتلة والمغتصبون وتجار المخدرات من العقاب، نتيجة ثغرات قانونية وأخطاء في الإجراءات يستغلها المتلاعبون من المحامين والسلطات التنفيذية، والقضائية أيضا، فقد أفلت سفاح يقتل الأطفال بعد اغتصابهم، لأن سبب تفتيش سيارته لم يكن يتعلق بجريمة القتل، بل بالتحقق من رخصة تسيير السيارة التي اشتبهت فيها الشرطة!

وفي غمرة يأس القاضي عرض عليه زميله الانضمام إلى هيئة محكمة سرية، قام بتشكيلها من 9 أعضاء فقط لنظر القضايا الخطيرة التي يفلت مرتكبوها، ثم تنفيذ أحكام الإعدام في المدانين بواسطة فريق خاص بالمحكمة التي أطلقت على نفسها اسم “غرفة النجمة”.

(2)

القاضي الذي أتحدث عنه ليس المستشار يحيى الدكروي، والقضية ليست تيران وصنافير فقط، لكن المقصود هو كل من يشعر باختلال العدالة في كل القضايا، وحتى لا يختلط اتهام الإرهاب بهدف تطبيق العدالة بالقوة، لن أكتب من واقعنا، سأكتب عن قاضٍ اسمه “ستيفن هاردن” اخترعه الكاتب رودريك تايلور والمخرج بيتر هايمز، وجسده مايكل دوغلاس في الفيلم الأمريكي “The Star Chamber”، وطبعا لم تكن القصة محض خيال أو تسلية لجمهور الأكشن، لأنها تقتحم الدائرة الغامضة.. دائرة الحكم، التي تتقاطع فيها محاور الأجهزة، ومصالح القوى المؤثرة، والعلاقات المركبة بين أقطار وأقطاب الدائرة، وبرغم أن الفيلم سعى في مشاهد النهاية لتحقيق نوع من التوازن التلفيقي، ليعيد الاعتبار لمنصة العدالة الرسمية، بصرف النظر عن أخطائها.. (فهذه سمة كل فعل إنساني)، لكن عنوان الفيلم كان طريقنا للذهاب إلى ما نريد… إلى شؤون السياسة والحكم، حيث تتلاعب السلطة بالقضاء لتصفية المعارضين، وممارسة القمع والهيمنة تحت ستار قانوني لا يأبه بالمبدأ الشهير: “العدل أساس المُلك”، فالعنوان (ستار تشمبر) يشير إلى محكمة سرية تأسست في إنجلترا خلال العصور الوسطى، في محاولة من المَلِك لاستعادة صلاحياته المطلقة التي نالت منها وثيقة الحريات المدنية المعروفة باسم “ماجنا كارتا”.

(3)

السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل قام السيسي بتأسيس “غرفة سرية” لفرض توجهات سياسية معينة لاعلاقة لها بالقانون والدستور؟، وهل راح المستشار هشام جنينة والفريق عنان والدكتور أبو الفتوح والفريق حجازي وآلاف الشهداء والمحبوسين ومصر كلها، ضحية لـ “ستار تشمبر مصرية” تأسست في مرحلة تكاتف أجهزة الحكم من أجل استعادة مقاليد الأمور قبيل 30 يونيو ما تلاها من إجراءات لـ”سيسنة الأجهزة” و”سيسنة الدولة” كلها؟

(4)

في ظلام العصور الوسطى كانت سلطة الكنسية تتواطأ مع سلطة المَلك الإنجليزي ذات الطابع الإلهي، وفي القرن الـ 13 تمرد البارونات في إنجلترا لحماية امتيازاتهم بقوانين مدنية، ونجحوا في فرض وثيقة (ماغنا كارتا) للحد من سلطات الملك المطلقة، وإجباره على احترام الحريات الفردية، وتم تشكيل مجلس عام من أصحاب المال والنفوذ، سمي “المجلس العظيم” بهدف مراعاة مصالح البلاد، إذا تعارضت مع سياسات الحاكم، حيث كان من حق المجلس نقض يمين الولاء للملك إذا اقتضت الظروف، ومن المفهوم أن المجلس “العظيم” كان يضم أصحاب النفوذ وليس نوابا منتخبين، وبالتالي تصاعد صراع المصالح لزمن طويل، وجرت تعديلات كثيرة على “الماغنا كارتا”، كان جوهرها ضمان عدم احتجاز أو سجن أي مواطن حر أو انتزاع أملاكه أو حرياته أو حقه في ممارسة حياته دون ملاحقات تتستر وراء مظهر القانون والعدالة، ونصت الوثيقة ايضا أن الغرامات يجب أن تتناسب مع المخالفة، ولا تخضع لقواعد الكنيسة في محاكمتها لرجال الدِّين، فأفراد الشعب يحاكمهم أقرانهم وفقط، كما أن رجال الحكم يجب ألّا ينصبوا أنفسهم قضاة في المحاكمات الجنائية، وفي ظل الصراع الطويل بين نفوذ كل من “المجلس العظيم” و”المجلس الملكي” الذي كان مجرد تابع للملك في كل الأحوال، قام القصر في نهاية القرن الـ14 (عام 1398م)، بتشكيل محكمة سرية برئاسة الملك للنظر في القضايا الخطيرة بشكل منفصل عن القانون العام، وفي منتصف القرن الـ15 شاع أمر المحكمة السرية التي أخذت اسمها من المصطلح اللاتيني “كاميرا ستيللاتا” أو “ستار تشمبر” (أي غرفة النجم).

(5)

ربما بدأ عمل “غرفة السيسي” بالمستشار زكريا عبد العزيز، ثم تصاعدت وتوسعت الأعمال حتى وصلت إلى خيري رمضان، وسيدة ما تبيع “الترمس” تحت تمثال عبد المنعم رياض، وصل تقرير لعباس كامل أنها “عملت قرطاسا من ورقة عليها صورة “القائد الفلتة”، لهذا علينا أن نؤجل الحديث عن واقعنا، تجنبا لعقوبة القرطاس، ونتخذ من العصور الوسطى ستاراً للحكاية السافلة

(6)

توحشت محكمة “ستار تشمبر”، واتخذت قانونها الخاص في عصر الملك هنري السابع، واستخدمها لمعاقبة وتصفية وإخضاع خصومه من البارونات وأثرياء الطبقة العليا، حيث صارت “غرفة النجمة” محكمة خاصة فوق كل المحاكم وفوق المجلس العظيم (البرلمان حاليا)، وبالرغم من أن المحكمة امتازت في بعض الفترات بتحقيق العدالة، وتسريع التقاضي في القضايا التي عجز القضاء العادي عن النظر فيها لقوة شوكة المتهمين، إلا أن السمة الأبرز للمحكمة تمثلت في توظيفها السياسي لقمع خصوم الملك، وتوجيه اتهامات جزافية تحت دعاوى “محاولة التآمر”، والتشهير، وشهادة الزور (وهي تعني حرفيا تهمة “نشر وترويج أخبار كاذبة” التي حوكم بها المستشار جنينة، حتى وصلت إلى “أم زبيدة”)، وبالطبع كانت “ستار تشمبر” تنظر الكثير من القضايا التي تتعلق بتهم من نوع الفتنة وإثارة القلاقل والشغب للتأثير على نظام الحكم، وهكذا استخدم الملك هنري السابع محكمته الخاصة لكسر أي قوة تعارضه سواء من ملاك الأراضي، أو من المطالبين باستعادة تفعيل مبادئ “الماغنا كارتا” والحقوق المدنية التي جار عليها هنري السابع وخلفه هنري الثامن، الذي تحولت المحكمة في عهده إلى سلاح سياسي مباشر ضد المعارضين، في ظل ذلك القمع ازدهر الخوف والنفاق، وزادت أعداد الرؤوس الطائرة، فبدأت الكنيسة وسلطات الحكم الأخرى، وشخصيات الطبقة العليا، تعيد تكييف نفسها لتفادي الوقوف أمام هذه المحكمة المتعنتة كمتهمين أو حتى كشهود، فالمصير مأساوي في كل الأحوال، لأن “غرفة النجمة” لا تعترف بقانون، ولا تهتم بعدالة، لأنها مجرد أداة تنكيل بمن يقف في طريق الملك، الذي لم يكن يفهم أن عصر الحاكم الإله قد انتهى، وأن ثورة التنوير، قد أضاءت الطريق للخروج من ظلام العصور الوسطى.

(7)

في السياسة كما في كل شئ، لا تمضي الأمور بمحض الصدفة، ولا تتحرك من تلقاء نفسها بعفوية وبراءة، لكنها تحتاج إلى قوة دفع، وتحديد هدف، ووضع ترتيبات للوصول إليه، من بينها حشد الداعمين، وترويع المعارضين، وإذا عرفنا الهدف يسهل علينا كشف الترتيبات، وفي رأيي أن الهدف الواضح لغرفة السيسي السرية، ولمحمد بن سلمان أيضا، هو “التمكن والتمكين”، وأن ذلك من وجهة نظرهما (كموظفين لدى إدارات أعلى في واشنطن وتل أبيب) لن يتحقق إلا بإرضاء المديرين، ومن هذا “الفهم المنحرف” بالتحديد، يصبح مشروع “إسرائيل الكبرى”هو الهدف الذي يكشف لنا بسهولة معظم السياسات والتصريحات، ومعظم الممارسات الإجرامية التي تقوم بها “الغرف السرية” في كواليس أنظمة الحكم العميلة.

عند هذه النقطة أتوقف، فتكملة المقال عندكم، وليست عندي

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه