يتكلَّمُ الرئيسُ.. فَمَنْ يردُّ علَيهِ؟!

السيسي وَهُوَ يَقفُ مَعَ ماكرون علَى المِنصّةِ تحدّثَ كَمَا يَشاءُ، لكنْ لامشيئةَ أُخرَى يُمكنُها الرّدُّ علَيهِ تعليقاً أَو اختلافاً أَو توضيحاً تنطلقُ مِنْ منابرِ العملِ السّياسي

ماكرون الّذِي كانَ واقفاً مَعَ السّيسي علَى مِنصّةِ المُؤتمرِ الصّحفيِّ خلالَ زيارتِه للقاهرةِ مُؤخّراً، يَستطيعُ أنْ يقُولَ مَا يَشاءُ، حتَّى لَو ادَّعَى أنَّهُ أعْظمُ مِنْ نابليون، وأشْجعُ مِنْ ديغول، وقدْ تَنشرُ بعضُ الصُّحفِ والمواقعِ فِي بلادِهِ هذِهِ التّصريحاتِ المغرُورَةَ، وقدْ تُذيعُها فضائيّاتٌ، باعتبارِهِ رئيسَ الجمهوريّةِ الخامسةِ فِي فرنسا.

ماكرون الّذِي يحقُّ لهُ قولُ مَا يُريدُ لَا يتمدَّدُ وحْدَهُ فِي فراغاتِ التّصريحاتِ، ومنابرِ الإعلامِ، وفضاءاتِ المجالِ العامِّ، كمَا لَا يحتكرُ المشهدَ السّياسيَّ بمفردِهِ ليصُولَ ويجُولَ فيهِ كَمَا يَشاءُ .ز
إذْ إنَّ فرنسا ليستْ مُغلقةً علَى ذاتِهِ الّتِي لا تُمسُّ أو تُنافسُ، هُناكَ أندادٌ كُثُرٌ يُزاحمُونَهُ مثلَ قادةِ الأحزابِ، ورجالِ السّياسةِ، وزعماءِ المُعارضةِ، ونوّابِ البرلمانِ، ونشطاءِ المُجتمعِ المدنيِّ، وطبقةِ الإعلامِ مِنْ صحفيّينَ وكتّابٍ ومُحلّلينَ، وأهلِ الثّقافةِ والفِكْرِ، والشّخصيّاتِ العامّةِ ذاتِ التّأثيرِ ..
وهناكَ أندادٌ مُفاجِئُونَ تفرزُهُم تفاعلاتُ المُجتمعِ الحرِّ والدّيمقراطيّةِ الفوّارةِ مِثلَ “السّترات الصّفراء”، الحركةِ الشّعبيّةِ الاحتجاجيّةِ العفويةِ الّتِي هزّتْ عرْشَهُ بعنفٍ وأجبرتْهُ علَى الرّضوخِ لمطالبِهَا دونَ عنادٍ أَو استكْبارٍ.

بماذَا يتكلَّمُ الرّئيسُ؟

مِنْ حقِّ ماكرون أنْ يقُولَ مَا يُريدُهُ، لكنْ فِي الوقتِ نفسِهِ هُناكَ آخرُونَ مِنْ حقِّهم أنْ يردُّوا عليهِ بمَا يَشاؤُونَ أيضاً، والإعلامُ قدْ لا يمْنَحُهُ المساحةَ والوقتَ الّذِي يُتيحُهُما لخُصومِهِ السّياسيّينَ ..
إذْ إنَّ قيمَ النّشرِ ليسَ مِنْ بينِها أنَّ الرّئيسَ يتكلَّمُ، إنَّما بماذَا يتكلَّمُ، ومَا أهميةُ كلامِهِ، وأهميةُ الردِّ علَيهِ حتَّى تَتوازَنَ كِفَّتا البحثِ عَنِ الْحقيقةِ؟، وقدْ تكونُ تصريحاتُ فرنسوا فيون، أَو مارين لوبن، أو بونوا آمون، أو آلان جوبيه، أو جان لوك ميلنشون، أو ساركوزي، أو أولاند، هِيَ الأهمَّ فتحُوزُ الاهتمامَ، وتخْضعُ للنّقاشِ والتّحليلِ، ولا يُلتفَتُ كثيراً لكلامِ الرّئيسِ.

الرّئيسُ فِي فرنسا ليسَ مُقدَّساً، وكذَلكَ فِي كلِّ ديمقراطيّةٍ حقيقيّةٍ مُتجذِّرةٍ، الثّورةُ الفرنسيةُ أسقطتِ الْقداسةَ نهائيّاً عَنِ الْحُكّامِ، وسبقَهَا نضالٌ سياسيٌّ طويلٌ، وتضحياتٌ باهظَةُ الثَّمنِ فِي ممالكِ أوربّا لفرضِ الإصلاحِ، وتحويلِ الحاكمِ مِنْ إلهٍ ونصْفِ إلهٍ إلَى بشرٍ خادمٍ للشّعبِ ..
وفكِّ تحالفِ الاستبدادِ التّاريخيِّ الوثيقِ بَينَ المُؤسّستَينِ المَلكيّةِ والدّينيّةِ، ولهذَا لا تُفسَّرُ ضحكةُ الرّئيسِ بأنَّها تصْعدُ بالبورصةِ، وتجْذبُ الاستثماراتِ، ضحكةُ الرّئيسِ مجرّدُ سلوكٍ شخصيٍّ عاديٍّ يجبُ ألَّا تُوؤَّلَ بأكثرَ ممّا تحْتملُ.

هذَا هُوَ التّعدُّدُ فِي الحياةِ السّياسيّةِ، والحراكُ النّشطُ والفعّالُ فِي المُجتمعِ، والتّدافعُ بينَ الأندادِ والمُتنافسينَ من أجلِ إجلاءِ المواقفِ الصّحيحةِ، والتّوصُّلِ للحقائقِ المجرّدةِ، والحفاظِ علَى مصالحِ المُواطنينَ، ورفعةِ البلدِ المُؤْتَمَنِينَ جَميعاً، حُكّاماً ونخباً، علَى سياستِهِ وإدارتِهِ وحُكمِهِ والتّخطيطِ لحاضرِهِ ومُستقبلِهِ.

الرأْيُ بلَا رأْيٍ آخرَ

والوضعُ فِي مِصْرَ مُختلفٌ، لَا نُقارنُهُ بفرنسا، ولَا بدولٍ وديمقراطياتٍ أقلَّ من فرنسا كانتْ مِصْرُ يوماً أسبقَ مِنْهَا وأكثرَ استعداداً للتّطوُّرِ عنها، مِثلَ كوريا الجنوبيّةِ وماليزيا وإندونيسيا وبلدانِ أمريكا اللاتينيّةِ وإثيوبيا أخيراً، وغيرِهَا مِنْ تجاربِ التّعدُّديّةِ السّياسيّةِ والتّنافسِ الحُرِّ الّتِي تواصلَتْ ولمْ تنْقطعْ ..
والسّيسي الّذِي كانَ واقفاً مَعَ ماكرون على نفسِ المِنصّةِ هُوَ الرأيُ بلَا رأيٍ آخرَ، والنِّدُّ بلا نِدٍّ لَهُ، والزعيمُ بلَا زعيمِ مُعارضةٍ، والحاكمُ بلَا خصومٍ سياسيّينَ أَو محكُومينَ يحقُّ لهُم مُراجعتُهُ ..
هُوَ الأوحدُ فِي السّاحةِ، وفِي الصّفحاتِ، وعلَى الشّاشاتِ، وهُوَ المُتحدِّثُ الأوَّلُ والأخيرُ فِي المُؤتمراتِ والافتتاحاتِ والنّدواتِ واللقاءاتِ ومُختلفِ المُناسباتِ.

السيسي وَهُوَ يَقفُ مَعَ ماكرون علَى المِنصّةِ تحدّثَ كَمَا يَشاءُ، لكنْ لا مشيئةَ أُخرَى يُمكنُها الرّدُّ علَيهِ تعليقاً أَو اختلافاً أَو توضيحاً تنطلقُ مِنْ منابرِ العملِ السّياسيِّ والحزبيِّ والبرلمانيِّ والنّقابيِّ والمدنيِّ والإعلاميِّ الدّاخليِّ ..
لأنَّ هذِهِ المنابرَ والسّاحاتِ باتتْ مُوصدةً، إلَّا فقطْ لمَنْ يُثنِي علَى مَا يُقالُ، هذِهِ هِيَ الملامحُ العامّةُ الأحاديّةُ لمِصْرَ اليومَ، وليسَ مِنَ الْواردِ أنْ تتغيّرَ أَو تتنوّعَ أَو تتعدّدَ وَلَو قليلاً.

الحرية وتعدد المنابر

بَعْدَ 25 يناير عاشَتْ مِصْرُ الحُريّةَ المُقترنةَ بالتّعدُّدِ فِي المنابرِ، وَهِيَ مرحلةٌ قصيرةٌ غيرُ مسبوقةٍ ، حريةٌ أفرزتْ أصواتاً كثيرةً لا تتوفرُ إلَّا فِي ظلِّ الدّيمقراطيّاتِ الرّاسخةِ ..
وفِي تاريخِ السّياسةِ بمِصْرَ فتراتٌ مُشابهةٌ خلالَ العهْدَ الملكيِّ بعْدَ ولادةِ أوّلِ حكومةٍ شعبيّةٍ بقيادةِ سعدِ زغلول عامَ 1924، وكانتْ نتاجاً لانْتخاباتٍ حُرّةٍ ..
والسّنواتُ الأخيرةُ مِنْ عهدِ السّادات اتّسمتْ بمسحةٍ مِنَ الْحرّيةِ قبْلَ أنْ يضيقَ صدْرُهُ بهَا عامَ 1981، ثُمَّ كانتِ النّهايةُ الدراميّةُ بجريمةِ اغتيالِهِ.
وخلالَ ثلاثةِ عقودٍ مِنْ عهدِ مُبارك أتاحَ هامشُ الحريّةِ وجودَ تنويعاتٍ سياسيةٍ لمْ تجعلْ أحاديةَ الحاكمِ كاملةً ومُسيطرةً وحدَها علَى المشهدِ والحياةِ العامّةِ، والطّبيعيُّ هُنَا أنَّ تراكُمَ وتطوُّرَ التّجاربِ يقودُ المسارَ للأمامِ وللأفْضلِ سياسيّاً، لَا بالرّدَّةِ إلَى فتراتِ الانْغلاقِ والقيودِ.

نَعَمْ، يتمُّ الردُّ علَى أقاويلِ السّيسي، لكنْ ليسَ فِي المجالاتِ والقنواتِ والمنابرِ الطبيعيّةِ فِي أيِّ دولةٍ تعدُّديّةٍ، ومِنْها البرلمانُ، والأحزابُ، والإعلامُ، والمُنتدياتُ، والنّقاباتُ، والجامعاتُ، واللقاءاتُ، والتّجمّعاتُ، وكلُّ أشكالِ التّعبيرِ السّياسيِّ السِّلْميِّ الحُرِّ ..
مَنْ هُو- مثلاً – زعيمُ المُعارضةِ، أَو قادتُها الّذِينَ يقومُونَ بالرّدِّ فِيمَا يجبُ الردُّ علَيهِ مِنَ التّصريحاتِ الرّسميةِ؟ ..
ومَنْ هُمْ قادةُ الأحزابِ الّذينَ يُناقشُونَ ويتّفقُونَ أَو يختلفُونَ مَعَ مَا يذكرُهُ رأسُ النّظامِ فِي قضايا حقوقِ الإنسانِ، والحُرّياتِ، والتّوظيفِ، والتّعليمِ، والصّحّةِ، والسّكنِ، والطّرقِ والمُواصلاتِ، والعدالةِ الاجتماعيّةِ، والدّولةِ الدينيّةِ والدّولةِ المدنيّةِ الدّيمقراطيّةِ، وفِي غيرِها مِنَ الْعناوينِ العامّةِ العريضةِ الّتي تُطلقُ.
وقدْ تكونُ الرؤيةُ بشأنِها بحاجةٍ لرؤىً أُخرَى حتَّى لَا تظلَّ مُجافيةً لمفاهيمِها وتعريفاتِها وقيمِها وحقائقِها وتطبيقاتِها وتفسيراتِها ومنطقيّتِها؟
مَنْ يقولُ هذَا صحيحٌ، وهذَا غيرُ دقيقٍ لتنويرِ الرأيِ العامِّ وتعريفِهِ أنَّ هُناكَ رأياً آخرَ، وصوتاً مُختلفاً، وليس رأياً أحاديّاً فَوقِيّاً مطلوباً التأمينُ عليهِ، والالتزامُ بِهِ.

المُتَنَفَّسُ الّذِي لَا يُلغِي الأصلَ

المُتَنَفَّسُ الوحيدُ للاختلافِ اليومَ هُوَ مواقعُ التّواصُلِ الاجْتماعيِّ، لكنَّ هذِه القنواتِ لا يُمكنُ أنْ تُلغِيَ المُتَنَفَّسَاتِ الأصليّةَ الّتِي تُشكّلُ مَعَ مُؤسّساتِ الحُكمِ بِنيةَ النّظامِ السّياسيِّ، كَمَا لَا يمكنُ أنْ تكُونَ بديلاً نهائيّاً لَهَا ..
صحيحٌ أنَّ مواقعَ التّواصُلِ تعكسُ مِزاجاً عامّاً، ونجحتْ ضغوطُها مراراً فِي تغييرِ مواقفَ وتعديلِ إجراءاتٍ، ودفعِ شخصياتٍ للتّراجُعِ والاعْتذارِ، وإحراجِ أجهزةٍ ..
وهِيَ اليومَ المِنصةُ الوحيدةُ للرأيِ الآخرِ فِي الدّاخلِ، لكنّها لا تُغنِي عَنِ الْمُعارضةِ السّياسيّةِ والحزبيّةِ وَعَنِ الْإعلامِ الحُرِّ المُستقلِّ، وَعَنِ الْحراكِ المُجتمعيِّ والشّعبيِّ، وَعَنِ التّفاعلِ الثّقافيِّ والفكْريِّ وَالأدبيِّ المُتحرُّرِ مِنَ الضّغوطِ والقيودِ وجوقةِ النّفاقِ.

إعلامُ الخارجِ عرضةٌ للتشكيكِ

وَمُشكلةُ إعلامِ الخارجِ هِيَ فِي كونِهِ بالخارجِ، حيثُ يسهلُ قذفُهُ وقصفُهُ والتّشكيكُ فِيهِ، وهُوَ لَنْ يكونَ بديلاً أَو مُكافئاً لمنابرِ الدّاخلِ، وأحدُ أهمِّ أسْبابِ إضْعافِ محمد مُرسِي أنَّ الهجومَ علَيهِ كانَ مِنْ إعْلامٍ محليٍّ ..
وهذَا مَنحَ رسالةَ الإعلامِ مصداقيّةً لدَى قطاعاتٍ مِنَ الْمِصريّينَ باعتبارِ أنَّ الهجومَ علَى الرّئيسِ يخرُجُ مِنْ عُمقِ البلدِ الّذِي يحكمُهُ، وَلَو كانَ مِنَ الْخارجِ لرُبَّما فشلَ فِي استمالةِ كُثُرٍ، ولكانَ التشكيكُ فِي نواياهُ ومصادرِ تمويلِهِ سهلاً.

الوصايةُ والأبويّةُ والأحاديةُ، فضلاً عَنْ أنَّها سقطتْ تاريخيّاً ولمْ تعدْ صالحةً فِي هذَا الزّمنِ العولميِّ المُنفتحِ بلا حدودٍ أو قيودٍ، فإنَّها بِلَا مُستقبلٍ بَعْدَ ثورةِ يناير، فالوعْيُ والرُّوحُ اللذان نشرتْهما يصعبُ اغتيالُهُمَا مَهمَا كانتْ كثافةَ السّهامِ المُصوبةِ علَيهَا والّتي تثبتْ فِي ذكرَاها الثّامنةِ أنَّها ثورةٌ شعبيّةٌ حقيقيّةٌ عفويّةٌ تَحْيَا بشعاراتِها الوطنيّةِ التّاريخيّةِ.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه