ومبلغ العلم فيه أنه رجل

في مجرد سنة، لا تمثل شيئاً مذكورا في عمر الشعوب، دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وبصموده الأسطوري على مدى ست سنوات أخرى، حجز لنفسه موقعاً مهماً في تاريخ مصر

ليس هذا مقال رثاء مسكونا بالعواطف، لكنه كلمة للتاريخ كانت تبحث عن مناسبة!

وليس هذا المقال من باب مد جسور الود، فالمكتوب عنه أفضى إلى ما قدم، وليس في يديه من دنيا أريدها، وعندما كان يحكم كنت من معارضيه ولم أكن ممن انتخبوه، أو أيدوه إلا بقدر الانحياز للثورة، وعندما أطلت الثورة المضادة بوجهها القبيح، رأت في محمد مرسي عنوان الثورة المصرية واختيارها الحر، “وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين”.

لقد دخل الرئيس محمد مرسي التاريخ من أوسع أبوابه، دخله بوجهه عزيزاً كريماً، كأول رئيس منتخب، جاء بالإرادة الشعبية وفي أنزه انتخابات عرفتها مصر، ثم إنه كان مثالاً للاستقامة والنزاهة، فلم يضبط متلبساً بسرقة أو خيانة، ولم يفرط في التراب الوطني، وكان دائما يستشعر المسؤولية التاريخية، فيعجل بإعلان أهدافه، وكأنه يعلم أنهم لن يمهلوه ليعلن هذه الأهداف في الوقت المناسب!

قال إنه يعمل من أجل أن يصنع المصريون سلاحهم وغذائهم ودواءهم.. وقال إن نفسه تتوق للصلاة في المسجد الأقصى وهى ذاتها العبارة التي قالها الملك فيصل قبل أن يقتلوه، وكان من المعلوم بالضرورة أن إعلانه ذلك فضلاً عن إبداء رغبته في أن يأكل مما يزرع سبباً في التخلص منه

ليس فقط لأنه أول رئيس منتخب:

ولم يكن كونه أول رئيس مدني منتخب هو فقط ما يجعله أهلا لدخول التاريخ من أوسع الأبواب، ولكن التاريخ سيذكر له صموده الأسطوري، رغم ظروف حبسه شديدة البؤس، ورغم تدهور حالته الصحية، ورغم حرمانه من أبسط حقوقه كسجين، ورغم منع دفاعه وأسرته من زيارته، ورغم الحيلولة دونه ودون تلقي العلاج!

كانت كلمة منه كفيلة بأن تنهي كل هذا العذاب، وكان خطاب استرحام كفيلا بأن يمكنه من الخروج من السجن، ليعيش في الداخل أو الخارج معززاً مكرماً، فمبلغ العلم فيه أنه رجل، وقد أزعج بصموده سجانه، فأمعن في التنكيل به، لكنه أبداً لم يخضع بالقول، ليطمع الذي في قلبه مرض، ويظن أنه بطلب الشفاعة قد انتصر على الثورة.

وكان من الطبيعي أن يموت في محبسه مقتولاً، وهو يتعرض لعملية قتل بالبطيء، فشكواه المتكررة عندما تسنح الظروف من داخل القفص الزجاجي العازل عن أن حياته في خطر، كاشفة عن هذا القتل العمد، الذي بدأ منذ أن تم اختطافه من الحرس الجمهوري بعد إعلان وزير الدفاع المعين من طرفه الانقلاب عليه!

ميتة تليق بالرجل، الذي وضعته الأقدار ليكون اختيار الثورة وممثلها عبر انتخابات هي الأكثر نزاهة في تاريخ مصر، ولم يكن غريباً عليها، أو أنه هبط عليها سارقاً أو راكباً، فما دخوله السجن في ليلة جمعة الغضب إلا لكونه من الذين قادوا مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين في اتجاه المشاركة كتنظيم في الثورة، بعد أن شاركوا فيها كأفراد يوم 25 يناير 2013، ولم يكن اعتقاله مع ستة من أعضاء مكتب الإرشاد و500 من أعضاء الجماعة من فراغ، فهو اعتقال صادف أهله، فالرجل الذي كان أسداً في برلمان 2000-2005، في مواجهة سدنة النظام وأركان حكمه، لم يكن هو من ركب الثورة أو هبط عليها!

لم يخن الثورة:

لقد أصاب مرسي وأخطأ، لكنه أبداً لم يخن الثورة، ولم يخن الناس، ولم يخن الوطن، ولم يكن أبداً بالرجل الضعيف، لكنه تعرض للخيانة، ممن خان الجميع بدءا من ولي أمره المشير محمد حسين طنطاوي، ونهاية بالقوى المدنية التي ظنت من فرط الغباء أنه سيقود انقلاباً على الحكم المنتخب ويسلم السلطة لمن لم تمكنهم الجماهير من ذلك، وعندما أيقنوا أن صناديق الانتخاب لم تمكنهم من حكم مصر، ولا يزال يمارس خيانة من وثقوا به إلى الآن!

وما كان له أن يتمكن من الثورة إلا بخيانة من ينتمون اليها، الذين قطعوا الطريق على المسار الديمقراطي، فقد مثلوا غطاء مدنيا للانقلاب العسكري، وكل ما طلبناه هو أن ينتظروا حتى يكمل الرئيس دورته، لكنه الحقد الذي ملأ القلوب!

لقد “استكثروا” عليه أن يكون رئيساً، “فأنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه”، كما “يستكثرون” عليه الآن هذه الموتة العظيمة، وأن يموت على يدي جلاده دون أن يتنازل أو يفرط!

إننا نعلم – ويعلمون – أن الرئيس محمد مرسي ليس مداناً بأي جريمة، وها هم يجدون حرجاً بالغاً وهم ينشرون خبر وفاته، فيكون الاكتفاء في عموم الإعلام المصري بأنه مات وهو يحاكم في قضية التخابر، وبدا هناك توافق – نعلم أنه التوجيه – على عدم ذكر الجهة التي تخابر معها ليس لأنها تشرف أي إنسان حر، ولكن لأن السيسي وأجهزته يلتقيها الآن، كجزء من دور يقوم به لصالح واشنطن وإسرائيل، وأقصد بها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”!

فإذا كان الرئيس المنتخب في اتصالاته مع حماس قد مارس جريمة التخابر المجرمة قانوناً للإضرار بالمصالح العليا للبلاد، فلماذا يستقبل السيسي وأجهزته الآن قيادات الحركة على الرحب والسعة؟ وإذا كان الرئيس مرسي قد تخابر مع الحركة فلماذا لم تشمل التحقيقات من تخابر معهم؟ وهل يجرؤ النظام القاتل على ذكر دليل الإدانة.. لقد تخابر معهم.. فماذا قال لهم وما هو وجه الضرر الذي وقع على المصالح العليا لمصر؟!

ما علينا، فلست في معرض دفاع عن الرئيس مرسي لأنه أكثر وطنية من الذين رموه بهذا الاتهام، يكفي أنه لم يفرط في التراب الوطني، ولم يتنازل عن شبر واحد من أرض مصر، ولم يذكر اسم إسرائيل على طرف لسانه طوال السنة التي حكم فيها؟!

يا إلهي، أهى سنة فقط؟!.. سنة واحدة ارتفع فيها ذكره واعتبرناه فاشلاً فيها لأنه لم يأت لنا بلبن العصفور، وحاسبناه كما لو كان قد حكمنا لثلاثين سنة!

لكنه في مجرد سنة، لا تمثل شيئاً مذكورا في عمر الشعوب، دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وبصموده الأسطوري على مدى ست  سنوات أخرى، حجز لنفسه موقعاً مهماً في تاريخ مصر، وقد سجل اسمه بحروف من نور، ليكون موته لعنة على قاتليه، وكاشفاً – وليس منشئاً – لخستهم، فقد عضوا يده التي أحسنت إليهم، وأهانوا من هو سبب  فيما هم فيه.

لقد عمدوا لإهانته، فأعزه الله، وعملوا على “استهيافه” فارتقى رمزاً، و”استكتروا” أن يكون رئيساً، فكان رئيساً وشهيداً، وكما خافوا منه وهو السجين الأسير، فقد خافوه ميتاً، ودفنوه بدون جنازة طبيعية.

وكما حفظ الناس اسم الزعيم التركي “عدنان مندريس”، ولا يذكروا من أعدمه؟.. فسوف تحفظ الأجيال القادمة اسم محمد مرسي، دون أن تتذكر أسوأ جملة اعتراضية في التاريخ المصري هي “عبد الفتاح السيسي”.

فمن كان الله معه فمن عليه.

—-

مقالات لها صلة بذات الموضوع

عزة مختار تكتب:

في رحاب الله أيها الشهيد

/opinion/%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A3%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D9%8A%D8%AF

نور الدين العلوي يكتب:

مات بشرف ولا عزاء للشبيحة

/opinion/%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%B9%D8%B2%D8%A7%D8%A1-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D9%8A%D8%AD%D8%A9

د. جمال نصار يكتب:

مات الرئيس مرسي

/opinion/%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D9%85%D8%B1%D8%B3%D9%8A

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه