ولد الغلابة

 

عفوا أيها القارئ، لم أستطع كتابة مقالي اليوم معتمدا على التحليل السياسي العقلاني، ولكني كتب مدفوعا بانفعالات ومشاعر وآلام الغلابة التي تضخمت في بلادي، وأصبحت في ذاتها أيديولوجية وفكر ورؤية.

وعفوا فناننا أحمد السقا، لا أقصدك بعنوان المقال، فأنت قمت بدور ولد الغلابة في المسلسل الدرامي الرمضاني ولكنك لست هو، إنما أقصد ولد الغلابة الذي لا يعرف معنى كلمة الأمل ولا الألم، فالإحساس بالألم رفاهية لا يتمتع بها ولد الغلابة المحروم من الصرخات وحتى من كلمة “آه”.

ولد الغلابة لو صرخ معبرا عن معاناته ومعاناة أسرته ومجتمعه أصبح إرهابيا مصيره الضياع في غياهب السجون حاملا تذكرة ذهاب بلا إياب، فالداخل السجون المصرية مفقود والخارج منها مولود بلا روح.

ولد الغلابة الذي أذابت نيران الظلم والقهر والحاجة جسده وحولته لوقود وطاقة تنير طرق السادة وتمهدها لكي يعيشوا على عظام ودماء ولحوم الغلابة.

ولد الغلابة هو موظف الكهرباء الذي أقدم على الانتحار بإلقاء نفسه أمام قطار ركاب بمنطقة سيدي عدس بمدينة دمنهور، بعد مشكلات مع زوجته وأبنائه بسبب ضيق ذات اليد ومروره بضائقة نفسية لم يتحمل بعدها الحياة.

ولد الغلابة بلا حقوق

ولد الغلابة هو ولد الأغلبية في هذا الوطن، الأغلبية المطحونة من أجل رفاهية أقلية من الغيلان المستغلين بلا رحمة ولا شفقة، ولهذا فهو مواطن بلا حقوق وليس من حقه ولا من حق قبيلته من الغلابة أي ضمانات للأمان في مقابل توفير كل مقومات الأمان للأقلية المستغلة ولو على حساب كرامة ولد الغلابة وأمثاله من الأغلبية، وهذه هي الحقيقة التي أكدتها واقعتان متزامنتان، الأولى في شارع الهرم حيث أم وابنتها من قبيلة الغلابة تسيران في الشارع في طريقهما للعمل من أجل توفير لقيمات اليوم، فتتعرض لهما سيارة أولاد الصفوة وتحاول اختطافهما في وسط النهار وأمام المبنى الحكومي الذي يعج بكاميرات المراقبة الموضوعة لحماية المسؤولين، وتصرخ الأم والابنة طالبين النجدة من الحراسة أو أهل الشهامة، فلا تتحرك الحراسة فحماية الغلابة ليست مهمتها، ويختفي أهل الشهامة، فلا شهامة مع الجوع والقهر والفقر والمرض، ويهرب ابن الصفوة بعد مقاومة السيدة، وتلجأ السيدة إلى المبني الحكومي والأمن المحيط بها تطالب بعمل محضر وخاصة أن كاميرات المبني الموضوعة لحماية المسؤولين صورت الواقعة كاملة، فتكون الإجابة: «احمدي ربنا إنك وبنتك بخير»، وتعود المرأة وابنتها من دون الحصول على قوت يومها، لتكتفي بما حملته من قهر وخوف وإهانة.

وفي اليوم نفسه وفي مدينة «مدينتي» التي أسسها القاتل الحر هشام طلعت مصطفي والذي حصل على حكم بالسجن بعد ثبوت قيامه بقتل عشيقته، ثم خروجه من السجن بضغوط إمارتية سعودية ليمارس دوره في تأمين مجتمع الصفوة، ويؤكد أن أبناء الصفوة لا يحاكمون ولا يخضعون للقوانين التي تحكم العامة والغلابة، وحدث في نفس يوم واقعة غلابة الهرم، أن قام عامل في مدينة «مدينتي» قلعة الأثرياء والمستغلين، بالتشاجر مع أحد السكان الذي ادعى أن العامل تعرض لزوجته لتحضر بعدها جحافل من أجهزة الأمن لتؤدب زملاء العامل على طريقة تأديب العبيد ويتم تصويرهم بالفيديو وهم يساقون إلى سيارات النقل مثل المواشي ويضربون «بالقفا»، ويقف القاتل الحر هشام طلعت منتفخا متباهيا، ليعلن أن كرامة الصفوة من أبناء «مدينتي» من كرامته وهو القاتل الفاسد.

ابن الزبال والقاضي

عندما وقف وزير عدل سابق وأعلن أن ابن الزبال لا يصلح قاضيا، اندهش البعض واندهشت لاندهاشهم، فهي حقيقة يعكسها الفصل الطبقي الذي تعيشه مصر، ومن الطبيعي أن مناصب السلطة تكون كلها مسخرة لخدمة وتأكيد هيمنة الصفوة المستغلة على الأغلبية من أبناء الغلابة وبالطبع فمنصب القاضي وضابط الشرطة والوزير وغيرها من المناصب التنفيذية والقضائية والتشريعية لا بد أن تكون كاملة في يد أبناء صفوة وإلا اختلت دفة الاستغلال وخرجت عن سيطرتهم، ولذلك وفي كثير من الأحيان عندما يلمح مجتمع الاستغلال مساحة من مساحات الحياة الكريمة تلامس مجتمع الغلابة يسارعون فورا لتعديل المشهد، مثلما حدث في حى الشيخ زايد واتفاق رجل الأعمال نجيب ساويرس مع الحكومة على شراء الحديقة المركزية في حي زايد، لتحويلها إلى أبراج سكنية فاخرة، رغم أن المدينة التي تبرع بها الشيخ زايد للشعب المصري بكل طبقاته مصممة أن تكون مباني بلا ارتفاعات وتحتوي على مجمعات سكنية لكل الفئات والطبقات، وكانت الحديقة هي منفذ الترفيه الوحيد للفقراء في مقابل عشرات «المولات» للأثرياء، ورغم ذلك استكثرها المستغلون عليهم وحولوها لمعسكر للأغنياء والمستغلين.

التحرر بالموت

ولد الغلابة محاصر بين أمرين: إما الصبر على القهر أو الموت الإرادي كما فعل العشرات الذين ألقوا بأنفسهم تحت عجلات مترو الأنفاق في مشاهد صادمة قصدها أصحابها ليدقوا ناقوس الخطر بأن هناك مهمشين لا يدري بهم أحد يغادرون هذه الدنيا.

أو كما فعل الأب المصري محمد العامل بمطعم بالقليوبية وعمره 38 عاما وأب لأربعة أطفال يحبهم ويعجز عن الصرف عليهم وتوفير حياة كريمة لهم، فلا يجد «محمد» أمامه إلا طريق التحرر هو وأبناؤه من الدنيا بأعبائها فيقتلهم في سبتمبر (أيلول)2018 وينتحر تاركا رسالة لشقيقته مضمونها أنه سينتحر ليتخلص من حياته، لأنه «مش لاقي فلوس يصرفها على أولاده»، وأوصاها بدفن أطفاله معه في نفس المقبرة.

وفي شهر أبريل (نيسان) 2017 ترصد جريدة الوفد 12 حالة انتحار في أسبوعين هروبا من ضغوط المعيشة والفقر.

أما لو أصاب ولد الغلابة حالة من التفاؤل والأمل في مستقبل عادل ينال فيه حقوقه فمن المؤكد أنه سيصطدم في لحظة بالواقع القاتل مثلما حدث لطالب الحقوق الذي حصل على المركز الأول في كليته وعندما تقدم لوظيفة في النيابة العامة قوبل بالرفض لتدني وضعه الاجتماعي فأنتحر.

التحالف الشيطاني

الحقيقة المؤكدة أن الحكم الفاشي الذي يحكم مصر الآن أدرك أن مصالحه وأمنه لن يتحققوا إلا بتأمين دولي حصل عليه بالتنازل عن السيادة على بعض الأراضي، وتأمين محلي بانحيازه إلى طبقة المستغلين المستبدين لتشكيل تحالف من الفاشية العسكرية ورجال الأعمال الفاسدين وغلاف من البيروقراطيين الفاسدين ورجال الإعلام، ليضمن استمرار خريطة القهر الطبقي من أقلية مستغلة لأغلبية مقهورة ليس أمامها إلا أحد طريقين: الصبر أو الموت.

ولهذا فمصر لا تحتاج لثورة يقودها أيديولوجيون بقدر ما تحتاج لثورة طبقية يسبقها ثورة فقراء تهدم كل بنيان الاستغلال، ليتم بعد ذلك بناء الدولة على أسس سليمة.

وكلامي لا يعني الفوضى فمصالح الفقراء طالما هم أغلبية هي الضمان لأمن المجتمع وعدالته، على عكس ما نعيشه الآن من خوف وإرهاب وظلم وجوع بسبب تقديم مصالح الأقلية المستغلة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه