وقفات مع مسلسل قيامة أرطغرل

تبدأ أحداث المسلسل بخروج أرطغرل ابن زعيم قبيلة الكايي التركية، وأحد فرسانها، وبصحبته محاربيه الثلاث في رحلة صيد، وهناك يقوده البحث إلى شادن (صغير الغزال الذي اشتد عوده وترك أمه)، جذبه بعيونه إلى وسط الغابة، فتبعه إلى أن تمكن منه

وحين أوشك أن يطلق سهمه تجاه فريسته، إذا بصوت استغاثة قادم من الجوار، فما كان منه إلا أن هبّ ومحاربوه لنجدة صاحب الصوت، فوجدوا أبًا جريحًا وبرفقته فتاة يافعة وأخوها الغلام، وقد أحاطت بهم مجموعة من فرسان المعبد الذين عاثوا في الأرض فساداً، منذ بدء حملاتهم الصليبية في ديار المسلمين.

شاهدت هذه اللقطة عندما كنت في زيارة لصديق أصابته عزوبية مؤقتة، وسألته باستغراب عن قدرته على التغلب على الوحدة والجلوس لساعات بين جدران البيت الصامتة والهادئة بعد أن اعتاد صخب الأطفال وجلَبتهم، فقال: وجدت ضالتي، وترويحي لنفسي في “قيامة أرطغرل”، وهنا كانت بداية عهدي به.

لم يستغرقني الكثير من الوقت لأكتشف شهرة هذا المسلسل، والإقبال الضخم عليه. فبمجرد أن تكتب اسمه على محرك البحث، ستظهر لك العناوين والصفحات التي ازدحمت به عربيًا، وتركيًا، وأجنبيًا. وتأكيدًا على ذلك نشرت صحيفة عربي21 الإلكترونية مؤخراً تقريراً، تذكر فيه أن المسلسل حصد حصة الأسد في الدراما التركية، وأنه يتصدر قائمة الأكثر مشاهدة ومتابعة من قبل الجمهور التركي. ونفس الحال يقال عن المشاهد العربي أيضاً، فبالمقارنة مع بقية المسلسلات التركية المدبلجة، لم يحظ مسلسل بما حظيه “قيامة أرطغرل” حسب ما توصلت إليه الصحيفة.

كأحد الذين أصابتهم عدوى متابعة هذا المسلسل وانتظار حلقاته، وعدم تفويتها؛ أزعم أن عدة أسباب وراء اكتسابه كل هذه الشعبية الجارفة، ربما أهمها:

أنه يتحدث عن الحقبة التاريخية التي شهدت تأسيس الدولة العثمانية، فأرطغرل هو والد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، ووالده سليمان شاه يعتبر جد العثمانيين، والرواية التاريخية تقول إن أرطغرل هو من وضع حجر الأساس لنشأة الدولة العثمانية، حينما انتقل إلى أرض الأناضول، وعمل لصالح السلطان السلجوقي علاء الدين، ومن ثم أكمل ابنه عثمان المسيرة، واستقل بدولته بعد أن ضعفت الدولة السلجوقية.

فيضع هذا المسلسل بذلك يده على جرح مؤلم وحسّاس لدى المشاهد العربي والمسلم، فهو يصف حال الأمة الإسلامية في تلك الفترة بشكل يطابق حالها اليوم، حيث أحكم الأعداء الحصار والتكالب عليها من كل حدب وصوب، وأعملوا فيها عملائهم وجواسيسهم في الداخل، ونتج عن ذلك تفرق المسلمين وتشتتهم إلى دول متناحرة ومتقاتلة.

فالمغول عاثوا فساداً وقتلا وتشريداً في الشرق، والحملات الصليبية تتوافد من جهة الغرب، وفوق ذلك نجد في الداخل صراعات على السلطة والمناصب، ونفوس تَسبَّبَ حبُّ الكراسي والمناصب بنقص إيمانها وتغليب لمصالحها الشخصية على مصالح الدولة. لقد أتقن القائمون على هذا المسلسل وضع صور ونماذج لأشكال الخيانات والغدر، التي ستقف أمام كل محاولة تدعو إلى النهضة بأي دولة إسلامية أو عربية.

فمن أقوى الأمثلة على ذلك سيناريو محاولة انقلاب عسكري فاشلة وردت في نهاية الموسم الأول، حيث حاول كورت أوغلو، وهو بمثابة الأخ لسليمان شاه ونائبه في زعامة القبيلة، الانقلاب عليه، فبعد أن تلقى الدعم من الصليبيين؛ قام بالتأثير على بعض المحاربين واللعب بعقولهم، وأغرى بالمال والمناصب الموعودة بعض أفراد مجلس شيوخ القبيلة؛ وشرع بانقلابه، وحاصر مقر الحكم، وفرض قانون الطوارئ، وأحكم السيطرة على الأهالي. إلا أن دهاء أرطغرل وحنكته، وشجاعته حالت دون نجاح هذا الانقلاب، فأعاد الحكم إلى والده سليمان شاه، وبمجرد أن اقتص من الانقلابيين، توحدت كلمة القبيلة، وكانت ثمرة ذلك تمكنها من الإغارة على الحامية الصليبية التي كانت بالجوار، وقتل جميع مقاتليها، واغتنام كنوزها وثرواتها. فمن لا يحلم بهكذا انتصارات في أيامنا؟!

 

لذلك نجد بين المعلّقين من يدّعي أن هذا المشهد كان له الفضل الأكبر في التأثير على الشعب التركي، في تصديه لمحاولة الانقلاب العسكري الأخيرة، وإفشالها، وبالإضافة إلى ذلك، سمعت أن شارة مقدمة هذا المسلسل الحماسية، كانت بمثابة النشيد الثوري للثوار في محاولة صدهم هذا الانقلاب.

ومما يميزه أيضاً، تجسيده لأحوال السياسيين والمسؤولين المخلصين لأوطانهم في أي دولة بثلاث شخصيات، لعبت فيه أدواراً أساسية، وهم أبناء سليمان شاه الثلاثة.

فالابن الأكبر هو جوندودو، وهو يمثل دور السياسي المحنك والعسكري القوي، المخلص لوطنه وعقيدته، لكنه مصاب بحب السيادة والسلطة، يطمح إلى منصب الزعامة، لذلك كان يحرص أشد الحرص على أن يكلفه أبوه بالمهام والمسؤوليات، حتى يثبت جدارته وقدراته القيادية، وتحت هذا التأثير، كان يحرص على إبقاء دائرة التنافس ضمن حدود الأسرة الحاكمة، أما وإن شعر أن طرفاً خارجياً سيدخل هذه الدائرة، أو أن تهديداً سيلحق بأمن القبيلة وأهلها بسبب هذه الأطراف؛ فقد قلب كل الموازين عليهم، ويتحد مع أخيه أرطغرل لإيقاف هذا التهديد. وحين يكون هذا التنافس بينه وبين أرطغرل، فستظهر عليه علامات السخط والامتعاض من تفوق أخيه عسكرياً، ودهائه سياسياً.

ومع أن هذا التنافس كان يتسم نوعاً ما بأنه تنافس شريف، إلا أنه لم يدم على حاله هذه طويلاً، ففي نهاية الموسم الثاني، وعندما نوى أرطغرل الترشح لزعامة القبيلة، أدرك جوندودو أن الحظوظ ستتجه إلى كفة منافسه، فاستخدم الرشوة للتأثير على أصوات مجلس شيوخ القبيلة، ووصل إلى الحكم عن طريق المال الفاسد 

أما الابن الثاني، فهو سُنغور تَكين، القادم من الغياب والبعد، والذي لم يظهر إلا في الموسم الثاني، حيث ساد اعتقاد لدى القبيلة بأنه مات أثناء إحدى المعارك مع المغول، واختفت جثته، لكن اتضح أنه لم يمت، وأن السلطان السلجوقي قد قرّبه إليه، ومن ثم استخدمه للتجسس على المغول، فتجند في صفوفهم، وارتقى في المناصب حتى وصل مراكز قيادية، ثم عاد إلى قبيلته حينما كُشف أمره.

فهو على ذلك يمثل دور العسكري الصلب، والمقاتل الشرس، الذي أفنى شبابه في الخدمة العسكرية، والعمل السري، لكن ذلك كله كان على حساب لعبة السياسية، فهو لا يجيدها، ولا يفهم تقلباتها، فتقذفه تارة يميناً وتارة شمالاً، وتتلاعب به الشياطين البشرية لمصالحها.

أراد واضعو المسلسل إرسال رسالة مفادها أن العسكري المحض لا يصلح للسياسة، فعودة سُنغور تكين إلى قبيلته كان من شأنها أن تزيد من قوة القبيلة وتوحد صفوفها، لكنه -وبجهله- تسبب بعكس ذلك. فقد أوعز إليه الأمير سعد الدين كوبيك، (الذي تقول بعض الروايات التاريخية، أن السلطان السلجوقي سيعدمه لخيانته وتعاونه مع المغول والصلبيبين لاحقاً)، أوعز إليه وأقنعه أن أخاه أرطغرل خارج عن القانون، ويستحق التسليم للسلطان، لينال العقاب العادل بحقه، ولأن سنغور تكين لا يجيد التفكير، ولا تقليب الأمور، اقتنع بذلك، وكاد أن يودي بأخيه، ويهلك القبيلة، لولا حكمة تصرف أرطغرل، وسرعة تداركه الأمر.

أما الحالة الثالثة، فيجسدها الابن الثالث، أرطغرل، فهو فارس مقدام، شجاع بطل، يهوى مواجهة الصعاب، ويصب على أعدائه الموت الزعاف، وفوق ذلك فهو سياسي محنك، كتوم لا يظهر نواياه، يجمع بين فنون القتال في المعارك، ومهارات مكايدة السياسيين ومجادلتهم، يجيد وضع الخطط والألاعيب التي يستدرج بها الخونة والجواسيس، ليكشفهم ويجز رؤوسهم على الأشهاد.

هدفه إقامة العدل، ومحاربة الظلم بغض النظر عن هوية المظلوم، يسعى إلى توحيد العالم الإسلامي تحت راية نظام واحد، نال بانتصاراته رضا مجموعة من رؤساء قبائل الأتراك، يُطلق عليهم اسم “ذوي اللحى البيضاء”، وهم قادة تنظم “دولي” وسري يعمل بتوجيه السلطان السلجوقي علاء الدين، فكانوا هم حلقة الوصل التي ربطته بالسلطان. فبعد أن نال ثقته تم ضمه إلى حزبهم، وعلى الفور قاموا بتكليفه بشكل سري بمهمة التوجه بقبيلته إلى أرض الأناضول، والعمل هناك على تأسيس كيانٍ تابع للدولة السلجوقية، والتوسع في الفتوحات الإسلامية.

أراد أرطغرل أن يسير بكامل قبيلته إلى أرض الأناضول، وينفذ بذلك المهمة، وهذا كان مشروعه الانتخابي، لكن معاداة أخوته له، ووقوفهم ضده في كل محاولاته، جعله يقرر الانشقاق عن القبيلة، وأن يسير بمن يوافق مشروعه فقط.

لم تسعفني المصادر العربية بالتحقق من حقيقة هذه الواقعة، وهل فعلاً انشق أرطغرل عن قبيلته أم سار بكاملها إلى أرض الأناضول، وإن كانت هذه القصة من تأليف كاتب المسلسل، فيُفهم أنه تأكيد على أن انشقاق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن حزب نجم الدين أربكان، وتأسيسه حزب العدالة والتنمية كان قرارًا اضطراريًا للنهوض بتركيا وإحيائها من جديد، وبالتالي هي محاولة لربط بين شخصية أردوغان بأرطغرل

ولعل أهم ما يميز هذا المسلسل، هو اتصافه بغرْس القيم والمبادئ السامية والأصيلة، وخلوه من المشاهد المخلة بالآداب التي تُصعّب المشاهدة لكثرة ما فيها من مشاهد وإيحاءات غير أخلاقية، كما هو الحال في الكثير من الدراما المعاصرة.

حتى أن قصة الحب التي ابتدأ بها المسلسل أحداثَه كانت نزيهة وعفيفة، فقد وقع أرطغرل في حب الفتاة التي أنقذها، ووقعت هي في حبه أيضا، لكن حب أرطغرل شبيه بحب أبي فراس الحمداني حين قال:

أنا الذي إن صَبَا أو شفَّه غزل …. فللعفاف وللتّقوى مآزره

وأشرفُ الناس أهلُ الحب منزلةً…. وأشرفُ الحبّ ما عفت سرائره

يتزامن موعد كتابة هذه السطور مع البدء بعرض حلقات الموسم الثالث من المسلسل، وهي مرحلة أسس فيها أرطغرل قبيلة ديمقراطية متحدة، خالية من الخونة والجواسيس، وحتى الآن يحظى بتأييد جميع أعضاء مجلس شيوخ القبيلة، فبالتالي لا وجود لأحزاب معارضة.

الجديد في الأناضول الآن هو اختلاط قبيلة الكايي مع أعراق وأديان مختلفة، لذلك تظهر في هذه المرحلة سياسة التفريق في التعامل بين المسالمين والمعادين من غير المسلمين، ويبرز كذلك في هذا الموسم التطور الملحوظ في طريقة إخراج المشاهد، وأداء الأدوار المختلفة بحرفية دولية، وإتقان عالي المستوى.

فلمثل هكذا قصص وأحداث تحط محركات البحث رحالها، ولمشاهدة هكذا مغامرات تتشوق الأفئدة وتتعلق القلوب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه