وفشل مؤتمر برلين قبل أن يبدأ

في ظل كل تلك المعطيات فإن مؤتمر برلين قد فشل حتى قبل أن يبدأ، والفشل الأكبر يتحمله الفرقاء الليبيون الذين دخلوا في حرب بددت الثورة وعمقت الخلاف.

 

منذ أن أعلنت المستشارة الألمانية  أنجيلا ميركل عن نيتها الدعوة إلى مؤتمر برلين في سبتمبر الماضي،  محذرة من حرب بالوكالة قد تشهدها الساحة الليبية، فإنه الآن وقبل انعقاد المؤتمر غير المحدد بتاريخ معين حتى الآن، تكون كل التوقعات قد خرجت عن النطاق المحدد لها في المؤتمر المزمع عقده، لأن ما خافت منه المستشارة الألمانية فاق توقعها، وأصبحت الحرب الآن في ليبيا تدخلاً مباشراً، مثل مرتزقة شركة فاغنر الروسية، أو التدخل التركي المرتقب بطلب من حكومة الوفاق الشرعية، أو ما سبق ذلك من إشارات إلى تدخلات مصرية وإماراتية لم تؤكدها مصادر رسمية من كلا البلدين.

بعد التطورات الأخيرة، خاصة الاتفاق الأمني بين حكومة السراج وتركيا،  فإن أحدا لن يكون بمقدوره التنبؤ بنتائج المؤتمر في حال انعقاده،  لأن الذي سيفرضها آنذاك ستكون هي الأطراف القوية في المعادلة الليبية،  وبما أن تركيا على وشك إرسال قواتها إلى ليبيا،  في وقت بات قريبا جدا،  فإن سياسة الأمر الواقع ستكون هي الحاسمة في فرض الحل النهائي في ليبيا، وربما قد ظهر ذلك في زيارة أردوغان الأخيرة إلى تونس عندما دعا كلا من تونس والجزائر إلى المشاركة في مؤتمر برلين متخطيا ألمانيا التي من المفترض أن تقوم هي بتوجيه الدعوات،  في حين أن لاعبا آخر في الساحة الليبية وهو الرئيس المصري اكتفى بمهاتفة الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني والرئيس الروسي متفقا معهم على ضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة فقط لاغير!

فشل حفتر:

المشكلة الكبرى أنه لا يوجد أي تقارب بين ممثلي الدول الكبرى بشأن صياغة رؤية مشتركة للحل في ليبيا، فالصراع بين القوى الكبرى على أشده من أجل إعادة تشكيل قوي تحالف جديدة في ساحة الشرق الأوسط، وهذا ما أعلنته حكومة الوفاق من أنها تخاف من أن يكون مؤتمر برلين بابا لفرض الوصاية على ليبيا من جديد!

لا مؤتمر برلين ولا أي مؤتمر آخر سيحسم الأزمة الليبية، بل ستحسمها القوة رغما عن الجميع، فالمشير حفتر الذي فشلت قواته منذ أن حدد ساعة الصفر الأولى لدخول طرابلس قبل عدة شهور في أبريل الماضي لم يستطيع أن ينجح في ذلك، وفشل حتى الآن في دخول طرابلس، وهو ما جعل الدول المؤيدة له تتشكك من قدرته علي حسم المعركة لصالحه.

 الرئيس أردوغان انفتحت شهيته أكثر على مد نفوذه في منطقة المتوسط بعد نجاحه في فرض النطاق الأمني في الشمال السوري، وتمكن من فرض نفسه كلاعب أساسي في المنطقة على حساب تواري أدوار لاعبين أساسيين كمصر والسعودية، لكن الساحة الآن باتت خالية لتركيا التي تتوسع على حساب هذا الانحصار الدولي، فمصر التي كان من المفروض أن تكون هي البديل لمؤتمر برلين لحسم هذا الصراع المهدد لأمنها، مطوقة بالعديد من الأزمات كسد النهضة الأثيوبي جنوبا، وسيناء في الشرق، والحدود الليبية غربا، والأزمة السياسية داخليا.

إذن كل الدلائل تشير إلى تدخل تركي وشيك جدا إذ إن البرلمان التركي على استعداد أن يقطع إجازته في الثاني من يناير القادم للموافقة على إرسال قوات تركية إلى ليبيا، في وقت لايمكن فيه الاعتقاد بانها مجازفة تركية دون دراسة، فمن المؤكد أن هناك أمورا كثيرة غير معلنة ناقشتها تركيا مع الأطراف الدولية خاصة روسيا وأمريكا، ولايمكن في هذا الإطار أن نغفل أن تركيا هي عضو في حلف الناتو الذي يضمن سلامة دوله، فمن المؤكد أن هناك ضوءا أخضر حصلت عليه تركيا قبل الإعلان عن إرسال قواتها إلى الساحة الليبية.

روسيا الأكثر

لا شك أيضا أن تركيا هي في أقوى حالتها في الوقت الحالي، فترمب الذي سمح بالتدخل التركي في سوريا وأثنى على القوات التركية في فرضها سيطرة أمنية كانت خاضعة لقوات داعش لم يقف في وجه الاتفاق التركي الليبي، أما في الثامن من يناير القادم فسوف تعقد قمة روسية تركية مهمة جدا للجانبين ظاهرها اقتصادي يهدف لتدشين خط الغاز الروسي التركي “ستريم تركيا ” الذي سيصل أيضا إلى دول جنوب أوربا كبلغاريا وكرواتيا.. وباطنه سياسي ستجري فيه بالتأكيد مناقشة إرسال قوات تركية إلى ليبيا.

بالتأكيد روسيا في هذا الوقت هي الأكثر دهاء، ونفوذها السياسي في القارة الأوربية يزداد خاصة بعد أن أوشك خط ستريم 2 الذي سينقل الغاز إلى ألمانيا على وشك الانتهاء وسط معارضة أمريكية قوية، فصنبور الغاز الواصل إلى ألمانيا ومن ثم إلى دول غرب وشمال أوربا سيصبح في يد الدب الروسي، الذي سيمكنه من التحكم في القرار الأوربي السياسي بعد أن قوض العقوبات الأمريكية الأوربية المفروضة عليه بشأن الأزمة الأوكرانية.

 إذن مصالح العلاقات بين الدول هي التي ستحدد مستقبل ليبيا، فروسيا التي ضمنت وضعا مستريحا في سوريا، وكذلك تركيا أصبح بإمكانهما الآن التوصل إلى فرض أمر جديد في الشأن الليبي، أما الدور الفرنسي والإيطالي الذي اهتم أكثر بالثروة الليبية على حساب المصالحة، فإنه لم يحرز أي تقدم في ظل تنازع المصالح بينهما، بينما يبقي الدور المصري مبهما فهو في أغلب الظن لن يرسل قوات إلى ليبيا، ولن يشارك في حرب مباشرة مع تركيا.

في ظل كل تلك المعطيات فإن مؤتمر برلين قد فشل حتى قبل أن يبدأ، والفشل الأكبر يتحمله الفرقاء الليبيون الذين دخلوا في حرب بددت الثورة وعمقت الخلاف، والانقسام، وسمحت بكل تلك التدخلات الخارجية، أما الشعب الليبي فهو الوحيد الذي سيدفع ثمن كل هذه الإخفاقات التي ورطه فيها حكامه!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه