وعزُّ الشرقِ أوّله دمشقُ..

هي الشام لمن لم يزرها، تلك التي تقدّم مع فنجان القهوة الصباحي قرب البحرة ونافورة الماء طبقَ الياسمين.. شامة الدنيا كما يسميها البعض، وشام شريف كما أطلق عليها الأتراك..

دمشق التي اختزلت بلاد الشام جغرافياً _والتي تضم سوريا وفلسطين ولبنان والأردن_ بحمل الاسم، دمشق التي أنجبت مفكرين وأطباء ومخترعين اختزلهم شاعرها نزار قباني بأبيات تكاد لرقتها تذوب كحلوى “غزل البنات” في أفواه السوريين وعشاق شعره في العالم.

دمشق التي تحمل بصمة تصوف ابن عربي، وبطولة صلاح الدين ويوسف العظمة وحكمة القوتلي، وتحيط أسواقها الشعبية الجامع الأموي كالسوار في معصم نسائها الجميلات، تتعرّض لحملة تشويه منظمة لم تبدأ بمسلسل باب الحارة الذي يبث التلفزيون السوري الجزء التاسع منه الآن بل بدأ باستلام حافظ الأسد الحكم في سبعينات القرن الماضي. التدمير والتشويه الذي قام به الأسد لمدينة دمشق القديمة لم يقتصر على تحويل البيوت الدمشقية القديمة إلى مقاهي.. وحشر المباني التي لا هوية لها سوى الاسمنت داخل المدينة القديمة، وشراء البيوت من الدمشقيين وتهجيرهم وإحلال سكّان آخرين مكانهم.. ونشر بسطات “العواينية” المخبرين في الشوارع والأسواق..

بل طال نهر بردى الرمز الأهم في تاريخ دمشق والذي ذكر المؤرخ ابن عساكر أنّ اسمه كان براديوس أي نهر الفردوس.. ضفاف الفردوس تلك تمرّ بالغوطتين، فالشام فيها جنتان عن شمالها ويمينها يقصدها سكّان دمشق في طقسهم المعروف بـ “السيران”

وقد غنّت له فيروز “بردى هل الخلد الذي وعدوا به إلاكَ”.. وغنّى له عبد الوهاب “سلام من صبا بردى أرق… ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق” الأغنية الخالدة التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1926 في حفل أقيم لإغاثة منكوبي سوريا إثر قصفها بالمدفعية الفرنسية ولم يعرف أنّها ستصلح لتغنى في زمننا هذا..   

بردى الذي تحوّل إلى مجرى هزيل روائحه تزكم الأنوف وبحسب دراسة أجراها النظام السوري عام 2013 أنّ مياه النّهر لم تعد صالحة للشرب وأنّ التلوث فيه كبير جداً إلى درجة ظهور الأوساخ الصلبة على سطحه وأصبح مجرى للصرف الصحي! طبعاً لم يذكر التقرير مَنْ حوّل بردى إلى مجرى للصرف الصحي. ومن اختزل سكّان دمشق في مسلسل يسعى للترويج لبيت الأسد بأنّهم هم من جاؤوا إلى دمشق لينشروا الحضارة فيها.. بعد أن كانت عبارة عن حارة بباب مغلق!

مسلسل باب الحارة صورة دمشق كما يريدها النظام السوري:

دمشق في المسلسل يحكمها خضرجي وحلاق والمفكر فيها يعمل فرّاناً والنساء فيها جاهلات لا يتقن سوى النميمة والطبخ وفي أحسن الأحوال يضربن أزواجهن كما تفعل “فوزية” في المسلسل.

المسلسل يتحدث عن فترة الحكم الفرنسي لسوريا ويصور دمشق على أنها حارة بابها مغلق وسكّانها جهلة يتلهون بسفاسف الأمور على مدى تسع سنوات من عمر المسلسل.. والمصيبة أنّه يلقى رواجاً بين الناس حتّى داخل سوريا!

قد يُعذر التونسي والمغربي والمصري لمشاهدته باب الحارة واقتناعه أنّ المسلسل يمثل سوريا والسوريين، وقد لاحظت أنّ الكثيرين من أصدقائي “المغاربة” معجبون بالمسلسل واللهجة والعادات ويقلدون بعض عباراته! الكارثة أنّ لا أحد يعرف كم التشويه الذي يلحقه المسلسل بالشخصية السورية والدمشقية تحديداً وبالبيئة السورية التي اختزلها بالشخصيات الكرتونية في المسلسل..

لم يذكر المسلسل أنّ الكهرباء دشنت في دمشق منذ عام 1907، دمشق مدينة النور لم تغلق أبوابها يوماً كما في أوربا القرون الوسطى.. دمشق في ذلك الزمن كان فيها صناعة سينما، وقانون سير للمركبات، وشعبها يسهر على ألحان فرانك سيناترا كما يسهر على أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب..

لم يتحدث المسلسل عن أوّل رئيس انتخب بشكل حر وديمقراطي عام 1930 “محمد العابد” وأنّ الشعب أسقط منافسه الذي رشحته فرنسا “صبحي بركات” ومحمد العابد كان يحمل شهادتين جامعيتين إحداهما في الهندسة والثانية في القانون الدولي ويتقن خمس لغات.

المسلسل يظهر الحلاق على أنّه طبيب الحارة والحقيقة التاريخية تقول إنّ الجامعة السورية تأسست عام 1919 وأنّ أوّل دفعة من الأطباء تخرجت عام 1930 ماعدا الأطباء الذين تخرجوا من جامعات أوربية، وكان فيها 400 عيادة وأطباؤها لديهم هواتف رباعية الأرقام مثبتة بدليل الهاتف! هذا إذا لم نحصِ الصحف الجادة والساخرة التي صدرت في تلك الفترة، ولم نتحدث عن النهضة الفكرية، ولا عن الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية ولا عن المنتجات القطنية السورية والمنتجات الغذائية..

دمشق التي لا يوجد فيها سوى عربة الخضرة والحمار في المسلسل، كان فيها الهاتف نصف الآلي، والترمواي الكهربائي والحدائق ومكاتب المهندسين والمحامين والفنادق الفخمة مثل فندق فيكتوريا الذي عقدت فيه الكثير من المؤتمرات.. دمشق أنجبت في ذلك الوقت جلّ مبدعيها وأعظمهم قبل أن يجتاحها طوفان البعث.

تشويه صورة المرأة السورية:

المرأة في مسلسل باب الحارة غبية، أو متسلطة، أو مكسورة الجناح، نمامة وسيئة الطباع، تسعى لخراب البيوت، وتضرب زوجها وتطرده خارج البيت.. هذه النماذج الدمشقية التي يقدمها باب الحارة.. أمّا التاريخ فيقول، إنّ في دمشق ابنتها “ماري عجمي” أوّل مناضلة سورية بالقلم من خلال مجلة العروس، التي أصدرتها عام 1910 وأوّل من فتح صالوناً أدبياً مع مريانا مراش ضمّ أكبر مفكري العصر ومبدعيه.

وابنتها نازك العابد الكاتبة التي كانت تتقن الفرنسية والإنكليزية والألمانية وتحمل أفكارا تنويرية وشاركت في معركة ميسلون إلى جانب الشهيد يوسف العظمة..

في دمشق كان هناك أكثر من ستين جمعية نسائية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.

صحيفة “الوطن” أيضاً تقوم بحملة ممنهجة لتشويه صورة المرأة السورية، يكفي أن تعرف أنّ مالك الصحيفة هو “رامي مخلوف” لتدرك مستوى الانحطاط الذي وصل إليه الإعلام السوري بكلّ قنواته المرئية والمكتوبة. جاء في الصحيفة المذكورة أنّ “الأزمة السورية كان لها انعكاسات سلبية كثيرة على المرأة، حيث زادت عمليات الاغتصاب والتحرش الجنسي والتعنيف من قبل الزوج” وأنّ “عدداً كبيراً من الأسر السورية النازحة استأجرت في غرف صغيرة ما زاد من عمليات العنف والاغتصابات، إضافة إلى انتشار الفقر والعادات السيئة كشرب الكحول وغيرها من العادات التي تساهم في نشر الاغتصاب”.

من الواضح جداً أنّ رامي مخلوف وضباط النظام السوري يشربون الحليب وينامون بعد صلاة العشاء؛ ولا ينسون أن يشاهدوا منتجهم الفاخر باب الحارة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه