وصاية الاتحاد الأوربي على مصر

العرض الأوربي المحتمل يعني ببساطة قبول مصر بمبدأ دفع ثمن للمياه التي تصلها، وبالتالي فان وصول المياه اليها طيلة سنوات ملء خزان السد سيكون مرهونا بتوافر الموارد المالية

 

الاتحاد الأوربي يرحب باستئناف المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة، هكذا طالعتنا عناوين الاخبار بعد لقاء الممثل الأعلى للشئون الخارجية بالاتحاد الأوربي مع مفوض السلام والأمن في الاتحاد الأفريقي، ورغم أن هذا الخبر قد يبدو عاديا، الا أن موقف الاتحاد الأوربي الباهت من مفاوضات سد النهضة طيلة خمس السنوات الماضية، بل وتخطي المفاوضين له واللجوء مباشرة للرعاية الأمريكية للمفاوضات، التي فشلت حتى الآن، أثارت العديد من التساؤلات، حول رؤية ورغبة الاتحاد الأوربي في القيام بدور في حلحلة هذا الملف الشائك، وحول طبيعة هذا الدور، وجدواه خاصة على الجانب المصري؟

 ولا شك أن للاتحاد الأوربي مصلحة مباشرة في استقرار الأوضاع في مصر، خاصة وأن تداعيات بدء ملء السد في كل الأحوال ستكون كارثية على الجانب المصري، وسيترتب عليها بوار للأراضي الزراعية، ومعدلات فقر وبطالة ربما لم يشهدها تاريخ مصر التليد. ومن المؤكد أن ذلك سيؤدي الي عدم استقرار أمني وسياسي وموجات هجرة جماعية الى الاتحاد الذي لم يستفق بعد من موجات الهجرة السورية التي لن تقارن عددا بالموجات المصرية المتوقعة.

وقد نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، المرتبط بوزارة الخارجية الألمانية-التي تقود فعليا الاتحاد الأوروبي حاليا-، ورقة بعنوان: “صراع النيل: التعويض بدلاً من الوساطة، ومن اهم النقاط التي أقرتها الورقة استبعاد الحل العسكري لإيقاف مشروع بناء السد لا سيما بعد اقتراب اكتمال البناء، ولأسباب كثيرة منها:  

المسافة الطويلة التي تفصل بين البلدين، علاوة على الأوضاع الاقتصادية الصعبة للجانب المصري، إضافة الي امتلاك الجانب الاثيوبي لمنظومة دفاع صاروخية مستوردة من إسرائيل، علاوة على تهديدهم السد العالي في مصر.

السيسي وأبي أحمد
اتفاقية المبادئ:

كما استبعدت الورقة نجاح المفاوضات لرغبة الوسطاء الأمريكيين والصينين والأوربيين في عدم الانحياز لطرف على حساب الاخر، ودعم ذلك مستجدات الظروف الاقتصادية والسياسية في العالم بعد جائحة كورونا، والانكفاء على الذات المتوقع على الأقل خلال العام الحالي، الذي سيبدأ فيه التخزين فعلياً.

هذه الرغبة في الحياد ظهرت جليا خلال الجولات الماراثونية التي كسب بها الجانب الاثيوبي معركة الوقت، حتى أكمل البناء، وأصبح المتحكم الوحيد في الموقف، وهي التي تؤكد ان كل ما روجته أبواق الاعلام المصري حول العلاقات المتميزة مع الجانب الأمريكي أو الصيني، أو حتى مع دول الخليج والاتحاد الأوربي، لم تبن على أساس التكافؤ والندية بقدر ما بنيت على أدوار وظيفية مؤقتة قام بها النظام المصري لصالح البعض.

كما أن الخطأ الاستراتيجي بالتوقيع على اتفاقية المبادئ عام 2015 الذي فرط في الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل، في مقابل اعتراف الاتحاد الأفريقي بسلطة الانقلاب، ثم التفريط في جزيرتي تيران وصنافير، ووأد المعارضة بالداخل، والانكسارات المتتالية للجيش المصري في سيناء، وهزيمة المحور المصري الإماراتي ممثلا في حفتر ليبيا، كل هذا لا يؤكد فقط أن الخيار العسكري يبدو ضئيلا، بل أكد للوسطاء وهن الجانب المصري واستعداده المستمر للتنازل عن المصالح الوطنية.

ومن هنا جاء الحل الأوربي في هذه الورقة البحثية بتجاوز مرحلة المفاوضات الفاشلة، والتعامل مع الأمر الواقع بإقرار آلية لإبطاء عملية ملء السد، في مقابل أن تقدم مصر تعويضات للجانب الإثيوبي، تتحملها الدول الأوربية، وفق مجموعة من الشروط تلتزم بها مصر.

أي أن أموال التعويض المقترحة ليست مجانية، بل ستكون وفق شروط سيراقب الاتحاد الأوروبي على تنفيذها، ومنها تحسين إدارة المياه، لا سيما في ظل الإهمال الحكومي للاستثمار في إدارة المياه، فمعظم مشاريع تحلية مياه البحر، على سبيل المثال، لم تبدأ في التبلور حتى عام 2017، كما غابت عن نفقات الموازنة العامة للدولة خلال السنوات السابقة مشروعات الري والصرف خاصة في أراضي الدلتا القديمة.

السيسي والبشير ورئيس وزراء أثيوبيا السابق يحتفلون بتوقيع اتفاقية المبادئ
ثالث أكبر مستورد للأسلحة:

ومن بين الشروط أيضا تغيير الإدارة الاقتصادية للبلاد بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بإعادة توجيه سياسات الإنفاق الحكومي، مع التوصية بخفض الانفاق على التسليح، حيث أصبحت مصر في عهد السيسي ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم، والتوقف عن الانفاق على المشاريع الاستعراضية الكثيفة الاستخدام للموارد، مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تُقيمها الحكومة في الصحراء وتكلف مرحلتها الاولي ما لا يقل عن 45 مليار دولار، أو بناء محطة الطاقة النووية التي تكلف25 مليار دولار تقريباً.

كما يشترط الاتحاد الأوربي تغييرا في الإدارة السياسية للبلاد، بالتركيز على آليات الشفافية والمحاسبة والمساءلة، وهو ما يتطلب عمليا تحجيم دور الإسناد المباشر الي الجيش الذي تسند اليه معظم مشروعات الموازنة العامة المصرية، بالإضافة الى فضح اسرار الصناديق المغلقة، مثل صندوق تحيا مصر، وموازنات السطر الواحد التي تتدفق من خلالها الاموال الي الجيش والشرطة والقضاء ووزارة الخارجية.

الورطة:

تورطت مصر بالفعل بالتوقيع على اتفاق  المبادئ، كما استنزفت جولات المفاوضات الوقت المتاح لبناء رد فعل يحفظ لمصر حقوقها، وخدعت مصر نفسها حينما اعتمدت على المجتمع الدولي، وباتت السلطة المصرية أمام خيارات جميعها مر، في ظل تغول اثيوبي على قرارات الاتحاد الأفريقي، واستباقها بافتعال الأزمات داخل السودان، واستعراض القوة وقتل عسكريين سودانيين، وبالتالي لم يتبق الا العرض الأوربي كملاذ أخير لنجدة السلطة المصرية.

العرض الأوربي المحتمل يعني ببساطة قبول مصر بمبدأ دفع ثمن للمياه التي تصلها، وبالتالي فان وصول المياه اليها طيلة سنوات ملء خزان السد سيكون مرهونا بتوافر الموارد المالية التي ستشترطها أثيوبيا، وحتى إذا تعهد الاتحاد الأوربي بسداد بعض الدفعات في البداية فان استمرار تدفق المياه سيتوقف على استمرار تدفق الأموال من الجانب الأوربي، لا سيما بعد الالتزامات المصرية الضخمة في سداد أقساط وفوائد القروض الخارجية خاصة في العامين القادمين.

كما أن القبول بالعرض الأوربي، يعني نقل مركز صناعة القرار المصري الي بروكسل، والتدخل الأوربي في أدق تفاصيل الموازنة العامة والمشروعات الاقتصادية، ورغم أن النظام الحالي لم يدرس جدوى أي من مشروعاته السابقة، ومعظمها يدخل تحت اطار اهدار المال العام، كما أنه يفتقر الى الشفافية وتغيب عنه آليات المحاسبة والمساءلة، إلا أن التفريط بسيادة القرار المصري وخلق نوع من الوصاية الأوربية على مصر ستكون مقدمة لوصاية كاملة سياسيا واقتصاديا، وهو على ما يبدو مشروع احتلال ناعم ومتدرج، مرسوم بعناية، لصالح الكيان الصهيوني.  

السيسي وأبي احمد

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه