ورطة جمال خاشقجي

 

حتى كتابة هذه السطور، ما زال الصحفي السعودي جمال خاشقجي مختفيا بعد دخوله الى قنصلية بلاده في إسطنبول التي دخلها على قدميه ثم اختفى. وتزامن مع ذلك دخول فريق من خمسة عشر شخصا بأسماء سعودية إلى المكان نفسه ونشرت الصحف التركية صورهم وأسماءهم.

والطبيعي أن تقيم السعودية الدنيا ولا تقعدها من أجل الكشف عن اختفاء أحد مواطنيها ولكن الحاصل بخلاف ذلك تماما حيث اجتمعت كلمة زعماء الدول الكبرى على المطالبة بكشف ملابسات الحادث وما يكتنفه من غموض والمملكة السعودية لا حس ولا خبر!

أما تركيا البلد التي وقع على أرضها الحادث أيا كان خطفا أو قتلا فتتعامل مع القضية بحرفية عالية وتنتظر كلمة المؤسسات الأمنية والقضائية قبل أن يتحول الأمر إلى الساحة السياسية، ويظهر من خلال ما سمحت تركيا بنشره عن القضية أنها تمسك بزمام الأمور وأن لديها المعلومات الكاملة عن الجريمة التي غدت الحدث الأشهر عالميا والأكثر تداولا من لحظة وقوعه.

اللعنة

أما المملكة فهي في ورطة حقيقية لا يزيدها مرور الساعات إلا تعقيدا وبدت في المشهد وحيدة كما أريد لها؛ حتى الذين أوصلوها إلى هذه الحالة أو شاركوا في صنعها لا يستطيعون إظهار التعاطف معها أمام السيل العارم من الغضب العالمي على إخفاء صحفي ملأ طباق الأرض شهرة في مكان دبلوماسي وليس في سراديب السجون أو المعتقلات السرية التي يقبع فيها الآلاف من الدعاة والهداة والمعارضين لحكم آل سلمان.

 ‏قال الإمام البخاري رحمه الله: حدَّثَنِي أحمَدُ بنُ يَعقُوبَ، حَدَّثَنَا إِسحَاقُ بنُ سعيدٍ، سمِعتُ أبي، يُحدِّثُ، عن عبدِ الله بن عُمَرَ، قَالَ: «إِنَّ مِن ورَطاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أوْقَعَ نفسَهُ فيهَا، سَفْكَ الدَّم الحرَامِ بِغَيرِ حِلِّهِ».

والورطة هي المهلكة التي لا ينجو منها أحد كما قال شراح الحديث، وروى البخاري أيضا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله – تعالى – عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا”.

إن لعنة الدم الحرام تطارد أصحابها في الدنيا والآخرة، في النوم واليقظة، وتترك صاحبها في ورطة بلا فسحة، وهي الجريمة التي من أقدم عليها حل به من الوبال والنكال بعدد من خلق الله من البشر، وكأنما أزهق أرواحهم جميعا

قال الله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ)

ولم يأت بعد كبيرة من الكبائر من أصناف العذاب والوعيد مثل ما جاء بعد جريمة قتل النفس

(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)

إذا وقف القاتل

ولو انتهت القصة بإعلان مقتل جمال خاشقجي وأصبح لا يفصلنا عن ذلك إلا النزر اليسير، فكيف سيبررون قتله؟ ولو جاز ذلك على أهل الدنيا فكيف إذا وقف القاتل بين يدي ربه، وقال جمال: يارب سل هذا فيم قتلني؟

روى أصحاب السنن عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟).

وأضحى من المسلمات أن من أكبر العلامات على ذهاب العروش والممالك التوسع في الظلم وكثرة الولوغ في الدم،

ولعل أظهر الأمثلة على ذلك هلاك الحجاج بن يوسف الثقفي بعد مقتل إمام التابعين وعالم المسلمين سعيد بن جبير الذي دعا (اللهم لا تسلطه على أحد بعدي….) فبقي بعده مدة يسيرة وهو يقول مالي ولسعيد.

وحديثا حرص جمال عبد الناصر على طمس الكلمة، وسحق الخصوم، وضاق بسيد قطب وقلمه، ورأى فيه خطرا على نظام حكمه فقتله لتكتب لكلماته الحياة، ولم يكتمل عام على إعدام صاحب الظلال إلا وعبدالناصر مهزوم من أذل خلق الله، ثم مات من دون ان يحرز نصرا،أو يرى خيرا!

لكن جمال في هذه المرة هو الضحية!

فهل يكون خاشقجي هو قطب المرحلة وعمود الخيمة الذي نزعه صاحبها فسقطت على رأسه، فأصبح يقول مالي ولجمال؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه