وجبة انتخابية باردة في تونس!

خطاب الاستئصال اليساري يقدم خدمة مريحة للإسلاميين الكسالى بدورهم عن إنتاج برامج سياسية مقنعة وكاشفة لقدرات حكم حقيقية لدى الحزب وكوادره المتصدرة.

تأكد المجتمع السياسي التونسي في مفتتح سنة 2019 أنه سائر في طريق الانتخابات التشريعية والرئاسية..
لقد انتهت التعطيلات التي وضعها الرئيس وأنصاره في طريق الانتخابات، وفشلت مناورات كثيرة بوسائل غير نظيفة في تعطيل المسار الانتخابي.

لقد كان لحزب النهضة الإسلامي الدور المركزي في الدفع إلى الانتخابات. ولقد أفلح في “توريط الجميع ” في الذهاب إلى الصندوق؛ خاصة عبر تمسكه بالاستقرار الحكومي بدفاعه المستميت طيلة سنة 2018 على حكومة يوسف الشاهد في وجه رغبات الرئيس وابنه وأنصاره من الجبهة اليسارية والنقابات في كسر الحكومة واستبدالها في أجل زمني ضيق لا يسمح بالاستقرار المفضي إلى الانتخابات.

الجميع إذن في الطريق إلى الصندوق، وقد بدأت الحرب الانتخابية حتى لا أقول الدعاية والسباق القانوني المشروع بل أؤكد على لفظ الحرب لوصف ما بدأنا نعيشه قبل الموعد الانتخابي بفترة نسبيا طويلة..
ولكن رغم اليقين بالمسار الانتخابي فإن الحديث الدعائي ليس انتخابيا بل إننا نستشعر نفس الخطاب الذي كنا سمعناه في انتخابات 2011 المفضية إلى المجلس التأسيسي، وإلى خطاب 2014 الذي أوصل الباجي إلى سدة الرئاسة.

نحن الآن في أجواء مشابهة وأحيانا كثيرة مطابقة، فما هي المفردات المستعملة؟ وما هو سبب هذا الخطاب المستعاد كأنه وجبة مسخنة لم يفلح أصحابها في إعداد وجبة أشهى وألذ؟

الخطاب المنتظر من الشارع؟

الشارع محبط من النخبة السياسية التي حكمت منذ 2011 بكل شقوقها اليسارية والإسلامية والتجمعية (النظام القديم العائد متسللا)؛ ولكنه لم ينس مطالب الثورة الاجتماعية في المساواة والعدالة والرفاه المادي.
إحدى بوابات الإحباط هي المعركة التي لم تنفك بين شقوق النخب المسيّسة وأعني المعركة الأزلية بين اليسار والإسلاميين وهي معركة لم تكن أبدا على جدول الثورة ولا ضمن رغبات الناس من الثورة ومن السياسة عامة؛ ولكنها معركة كيّفت كلما جاء بعد الثورة وحكمت عليه بالفشل.
وها نحن نرى أن المعركة القادمة ستكون فصلا آخر من هذا الصراع المغلوط في تاريخ تونس، وفي حق شعبها وقد بدأت بعد وستستمر حتى الموعد الانتخابي ثم نكتشف أن النتيجة أيضا حكمت هنا وفشلت هنا.

العنوان الكبير الآن والذي سيكبر كلما اقتربنا من الصندوق هو أن حزب النهضة حزب إرهابي مخيف للتونسيين.
من أجل ذلك لا داعي لتقديم برنامج انتخابي وعريضة برامج انتخابية لإقناع الجمهور بالابتعاد عن حزب النهضة الذي لا يقدم لائحة برامج مماثلة وليس لديه مشروع حكم. يكفي الإلحاح والطرق المستمر على رؤوس الجمهور بأن حزب النهضة الإسلامي حزب إرهابي مجرم يملك تنظيما سريا للقتل ويرعى مدراس السلفية المتخفية في الأرياف البعيدة لتخريج دفعات جديدة من الإرهابيين القتلة المتسترين بالدين.

هذا الموضوع المستعاد يكشف أمرين مهمين، أولهما: أن ما يروجه في كل موسم انتخابي لم يملك، ولن يملك قدرة على إنتاج أفكار سياسية وبرامج تسيير دولة يمكن أن تقرب منه الناس وتبعدهم عن خصومه الإسلاميين . .
إنه علامة فقر اليسار التونسي بالذات، يسار فقير إلى الأفكار والى شجاعة إنتاجها. فاليسار التونسي وخاصة منها مكونات الجبهة الشعبية هي التي تتزعم خطاب توريط حزب النهضة في الإرهاب؛ دون أن تقدم للناس أية بدائل سياسية؛ رغم أن أقواما كثر مستعدون لسماع خطاب مختلف.
فالشارع ليس مع الإسلاميين دون جدال بل إن قطاعا واسعا غير معني بسماع الإسلاميين ولكنه أيضا ليس معنيا بقتلهم.

ثانيهما: إن خطاب الاستئصال اليساري يقدم خدمة مريحة للإسلاميين الكسالى بدورهم عن إنتاج برامج سياسية مقنعة وكاشفة لقدرات حكم حقيقية لدى الحزب وكوادره المتصدرة للشأن العام.
هناك استعادة لخطاب المظلومية يجلب القريبين من الحزب، وتستعمل فيه المفردة الدينية أيضا؛ كحماية القرآن وحماية الأسرة والثقافة الدينية عامة..
ولكن هذه من الغنائم التي تقدم لحزب النهضة مجانا بفضل حرص اليسار على الربط بين النهضة والإرهاب إذ ينتهون بغباء كبير إلى خطاب معاداة التدين عامة.

هذان الأمران يفرضان طرح سؤال مهم: متى ستنظم انتخابات في تونس خارج معركة اليسار والإسلاميين؟

هل من وجبة انتخابية جديدة؟

إن مؤشرات كثيرة تدل على أن معركة اليسار والإسلاميين ستستمر طويلا.
غني عن القول هنا أن النتائج المباشرة لهذه المعركة تنتهي عند فلول المنظومة القديمة التي تفلح دوما في ترميم حالها والفوز بأغلبية، وقد كان هذا جليا في 2014، ويبدو أنه سيكون أوضح في 2019.
فالتونسيون يشاهدون حزب التجمع الذي تجمع في حزب النداء ثم تفكك كسرب من الغربان ليعيد التجمع في حركة “تحيا تونس” ليوسف الشاهد، والمؤلم أن ذلك يتم بتغطية سياسية من الإسلاميين ومن اليسار نفسه.

فعوض الانشغال بطبيعة هذه التكوينة الجديدة وكيفية منعها من الفوز بانتخابات أخرى، فتحت في أسبوع تأسيس هذا الحزب معركة المدارس القرآنية لتوريط النهضة التي لا ناقة لها ولا جمل في ما تفعله السلفية بتونس وبحزب النهضة، إذ إن أكبر الضربات السياسية تلقاها حزب النهضة كانت من السلفية التي اقتحمت زمن حكمه: السفارة الأمريكية ودمرت سمعة الحزب في الداخل والخارج، فضلا عن الاغتيالات السياسية التي ارتكب في زمن حكم النهضة.

الوجبة السياسية المنتظرة تونسيا لم تتبلور بعد للأسف.
هناك مجموعات شبابيه تتحرك بلا قوة مادية وتنتج أفكارا وأساليب عمل مختلفة عن الحزبيات الكلاسيكية، وربما نعتبر أن النائب المستقل بالبرلمان ياسين العياري نموذج واعد بوجبة سياسية جديدة وله أنصار يزدادون عددا ولكن نتائج عمله لن تكون جاهزة لانتخابات 2019 إلا بمعجزة.

هذه المعجزة هي التقاء مجموعات شبابية على برامج دنيا دون الانشغال بمشروع تكوين حزبي ثقيل الحركة ..
شباب كثير خاب أمله في حزب الحراك الذي أسسه الدكتور المرزوقي، وقد كان أملا كبيرا وخاب.
هؤلاء يبحثون عن إمكانية عمل سياسي فعالة وهناك غيرهم مما اقترب من النهضة ولم يجد فيها بغيته إذ اكتشف انغلاقها الحقيقي على أولادها دون غيرهم رغم دعاوى .. استقطاب الشباب والنخب كما يوجد شباب يساري متحرر من المعركة مع الإسلام السياسي ويقف خارجها ولكنه لا يتقدم في اتجاه العمل الجماعي.

هنا توجد خامة مشتتة يمكن وصفها فعلا بتبر الثورة المحتاج إلى سبك سياسي ليتحول التبر إلى سبيكة متينة. هل سيفلح في التلاقي؟
والعمل على الدخول إلى البرلمان بوجوه سياسية شابة ومتحفزة لعمل مؤسس يستعيد روح الثورة في البرلمان ويفرض مطالبها على الحكومات؟

هذا سؤال أقرب إلى الأماني منه إلى الوقائع المحتملة.
فقد تمت محاولات سابقة في 2014 وباءت بالفشل لأن كثيرين التحقوا بها للفوز على ظهرها بغنيمة فحطموها قبل أن تكبر وتتحول إلى مشروع.
ونوشك أن نرى هذا يتكرر في 2019 وبنفس العناوين بما يدعونا إلى كتابة أخرى عن المرض النخبوي التونسي إذ السياسة طريق للغنيمة الشخصية فقط لا غير.
هنا تتحول الوجبة المنتظرة إلى زقوم آخر إذ تفسح المجال للمنظومة لتعود قائلة بصوت ضاحك ما أفشلكم.
نكتب بألم أن وجبة 2019 الانتخابية ستكون باردة وسنقتاتها من خوف الموت جوعا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه