وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها

 

«وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جاها نهار ما قدرش يدفع مهرها»، بهذه الكلمات الحزينة عبر الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي عن مرارة وألم الهزيمة عام 1967. صدمة العروس التي كانت تتزين لاستقبال فارس أحلامها منتصرا، لتفاجأ بأن الفارس أو النهار الذي انتظرته سنوات طويلة عاجز عن دفع مهرها، فكانت الهزيمة والانكسار.

ويوم أن كانت بلدنا على حافة لقاء النهار واحتضانه بشوق، وجدت نفسها بفعل الخديعة في أحضان الظلام والخيانة. ونهارها، فارسها الذي طالما اشتاقت إليه، مسجون وراء قضبان غليظة مرعبة، فتوقفت عن التزين.

الأسبوع الماضي كان مقالي عن الطفلة مروة ذات الأعوام التسعة والتي غادرت الدنيا قبل أن تلقى صباها بفعل الفقر والإهمال والقهر، ولم تمر ساعات حتى لحق بها محمد عيد البائع الجائل الفقير والفنان صانع المشغولات اليدوية، التي كان يسوقها في الطرق ووسائل المواصلات ليحصل على لقمة عيش حلال تخفف عنه وعن أسرته الفقيرة حدة الاحتياج.

محمد عيد وزميلة البائع حاصرهما كمساري (محصل) القطار لأنهما لا يملكان ثمن تذكرة الركوب، ورغم أنهما بائعان يعرضان بضاعتهما على الركاب، فقد أصر الكمساري على حصارهما وهددهما بتسليمهما للشرطة أو أن يقذفا بنفسيهما من القطار وهو يسير، وقام بفتح الباب الذي لا يفتح إلا بمفتاح خاص معه.

يتملكني اعتقاد أقرب لليقين أنه في لحظة وضعهما أمام أمرين أسوأ من بعضهما، مرت في ذهنهما مشاهد الإهانة داخل قسم الشرطة واحتمالات اتهامها بأية تهمة قد تضعهما في السجن كما يحدث مع كثير من المصريين، وربما يجدان نفسيهما أعضاء في المحظورة، فتأكد لهما في هذه اللحظة أن احتمال النجاة بالقفز من القطار أقرب من احتمال النجاة بالذهاب لقسم الشرطة، خاصة وأنهما فقيران مهمشان، والمهمشون مهانون في عرف رجال الشرطة والسلطة، فألقيا بنفسهما مدفوعين بحصار الكمساري وقناعتهما بأن رحمة الله أقرب من رحمة الحكومة، ونجا الأول وسقط الآخر “محمد عيد” تحت عجلات القطار، وكانت كلماته الأخيرة «حسبي الله ونعم الوكيل».

كمساري نصف عسكري

والكمساري (محصل المواصلات العامة) وظيفة موجودة في معظم بلدان العالم، وتكون علاقاته طبيعية مع المستخدم للمرفق، فالطرفان يقران بطبيعة العلاقة بينهما، حيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية المستقرة تزيل أي احتمال لوقوع مشكلات بينهما، إلا في مصر، فالفقر وارتباك الحياة يدفعان المهمشين إلى تجاوز القوانين كرها، فغالبا ما يكون سعر تذكرة المواصلات متجاوزا إمكانيات الراكب فيحاول الركوب مجانا من دون تذكرة، كما أن انعدام فرص العمل والفقر يدفعان كثيرا من الشباب إلى العمل باعة جائلين في المواصلات العامة.

وبدلا من أن تقوم الحكومة بدورها تجاه هؤلاء المهمشين، تنظر للأمر من جانب واحد وهو أنهم لا يملكون حق ركوب المواصلات من دون دفع الأجرة، ويتم تصنيفهم ضمن فئة الخارجين على القانون، وتتفنن الإدارات الأمنية في ابتداع القواعد والأساليب في مطاردتهم. وبينما يركب الضباط المواصلات مجانا، تعتبر الحكومة الفقير والمهمش والبائع الجائل من المجرمين إذا فكر في الركوب مجانا، وهذه الكبوة معروفة في مصر منذ عشرات السنين ولهذا أطلق بسطاء المصريين على الكمساري، نصف العسكري لأنه في علاقته بهم أقرب للشرطي من المحصل، وله صلاحيات شبه أمنية، وهناك أغنية  مشهورة كتبها الشاعر فؤاد قاعود ولحنها وغناها الشيخ إمام عيسي تقول في مطلعها «يا كمساري يا كمساري يا نص عسكري مسيح مع الغني وعلى الغلابة مفتري..سيبني أبيع لا تغضب السماء”

الجباية

هناك اتفاق نادر بين الحكومة والشعب المصري على اعتبار تحصيل أي أموال من الشعب نوعا من أنواع الجباية سواء كانت تذاكر مواصلات أو رسوم خدمات أوضرائب!

منذ عدة أعوام لا أتذكرها وقف وزير المالية في لقاء صحفي يسأل باندهاش واستنكار لماذا يدفع المواطن الأوربي الضرائب بطيب خاطر ويعتبر التهرب من الضرائب عارا وجريمة كبرى، بينما المصري يتفنن في الهروب من الضرائب، فأجابه صحفي بتلقائية، لأن الضرائب أموال مقابل خدمات يحصل عليها المواطن الأوربي كاملة بينما لا يحصل عليها المواطن المصري، لهذا هو يرى أن تحصيلكم للأموال هو نوع من الجباية والفردة. فأجاب الوزير بعنجهية أنا دوري جمع الأموال وليس تقديم الخدمات! وهنا يا سادة مربط الفرس نحن شعب يدرك أن الحكومة تجمع منه الأموال جباية وفردة، وحكومة لا تنكر أنها جباية وفردة وتجمعها بكل عنف وشراسة، وهذا ما يفسر القسوة التي يتم بها جمع الأموال وتحصيل الرسوم، وهو المنطق نفسه الذي  دفع الحكومة لتكليف شركة أمن خاصة رجالها من البلطجية مفتولي العضلات لتحصيل رسوم الكهرباء من المواطنين، والذين تباطأوا في سدادها لأن قيمتها الباهظة أعلى بكثير من إمكانياتهم بل ومن استهلاكهم الفعلي.

وزير النقل الحالي بدأ حياته الوزارية مندفعا بعنف لتطبيق فكرة واحدة وهي تحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال من مرفق السكة الحديد والمترو التزاما بتوجيه جنراله «الكل ح يدفع»، ومن دون أية إشارة ولا لفظ عن طبيعة السلعة التي سيحصل عليها المواطن مقابل ما سيدفعه، ونسى الوزير أنه جاء للمنصب هذا بسبب حوادث القطارات المتسبب فيها انهيار المرفق نتيجة إهمال صيانته، كما أن المسؤولين يسعون لإرضاء كبيرهم بجمع أكبر قدر من الأموال دون مراعاة البعد الاجتماعي.

وفي حوار لوزير النقل الحالي مع سيدة ترافق ابنها المصاب بمرض ذهني يجعله غير قادر على الإدراك، ويعالج بجلسات في مستشفى لا يمكن الوصول إليه إلا بالمترو، قالت له السيدة أنا أدفع تذكرة مترو 7 جنيهات ذهاب و7 جنيهات عودة، بينما أنتم لم تخفضوا التذكرة إلا لابني الذي لا يستطيع السير من دوني، وأنا أحتاج لتخفيض لأني لن أستطيع استكمال علاجه، فرد بقسوة غبية: ادفعي زيك زي كل الناس. هذه القسوة هي المقدمة نفسها التي دفعت الكمساري إلى تصعيد الحوار بينه وبين محمد عيد البائع في القطار مدفوعا بتعليمات وتشديدات وزيره، حتى انتهى الأمر بفقدان محمد حياته تحت عجلات القطار.

إعلاميو الطبل والزمر

وكعادة كل الأنظمة الفاشية الفاسدة تحيط نفسها بجوقة من الإعلاميين أصحاب المصالح، هؤلاء لهم مهمة أساسية وهي تجميل وجه النظام في تشابه شديد مع  تجميل «الماشطة للوش العكر»، وتبرير كل تصرفات النظام المنطقية واللامنطقية، وبالأمس القريب وعقب كارثة تذكرة القطار خرجت جريدة معروفة بتمسحها في نعال السلطة بخبر مفاده أن الشرطة الأمريكية طاردت مواطنا داخل محطة قطار لهروبه من دفع تذكرة الركوب! وهو خبر مفبرك وموجه لتخفيف حدة الغضب من تصرف الكمساري وتوجهات الحكومة العنيفة في الجباية والتحصيل، ورغم أن الخبر مفبرك واتضح أن المطارد متهم في قضايا جنائية وكانت الشرطة تتابعه، إلا أنني سأفترض صحة الخبر، وأقول إن الوضع في هذه البلاد يؤكد أنه لو ثبت أن المتهرب من دفع الرسوم تهرب لعدم مقدرته على سدادها يوضع تحت مظلة الضمان الاجتماعي ولا يلقى تحت عجلات القطار، تريدون التمثل بالخارج تمثلوا في كل شيء.

ما نعيشه يا سادة من فقر وظلم ومخاطر وكوارث تحصد حياة أبنائنا بالمئات، ليس مصدره الأقدار ولا الإرادة الإلهية، وإنما هو نتيجة طبيعية للفساد والاستبداد والحكم القمعي، والنظام الفاشي الذي يبني القصور والمجمعات السكنية الفاخرة والقرى السياحية لرجاله وحراسه من دماء وأرواح الأغلبية الفقيرة من الشعب.

وما زالت بلدنا تنتظر النهار الذي يسعى لمهرها. ومهر بلدنا ليس الأموال ولا الجواهر ولا الماس، مهر بلدنا هو الثورة على الظلم والفساد، وحكم الشعب لنفسه، ويومها ستعيش بلدنا أبد الدهر مع النهار الذي لن يغادرها أبدا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه