واقعنا قهر فانتازيا أبوسيف

وقف عضو مجلس النواب المصري في المجلس ليعلن موافقته على تعديلات ائتلافه على  الدستور المصري، ومضى يجوّد أكثر عبر تزلفه ونفاقه للنظام مهاجما زملاءه الأعضاء الذين رفضوا التعديلات وصاح فيهم: “لعنة الله على الديمقراطية التي تتحدثون بها”.

لم يكن النائب استثناء في قاعة المجلس بل هو ينتمي إلى فصيلة “أخته” غادة عجمي التي ظهرت على شاشة فرنسا 24 في مواجهة باحثة حقوق الإنسان الفرنسية الرقيقة لتقول: “لا لا سيلتو بليه الديمقراطية دي عندكوا إنما احنا بالقوة”.

هذا تلخيص رائع للمسألة!
فالديمقراطية هناك في فرنسا أما في مصر فالقوة يا أختي!

هذا يتم في ظل مناقشة عن حقوق الإنسان داخل مصر، والانتهاكات بحق المصريين في السجون أو في الحياة..

هو استمرار لعدم اعتراف السيسي بحرية التعبير والديمقراطية كحق من حقوق الإنسان، وقال منذ سنوات إن العلاج والتعليم والطعام حقوق قبل أن يتخلى عن اعترافه بهذه الحقوق بعد ذلك..
وهو استمرار لمقولته في المؤتمر الصحفي مع الرئيس الفرنسي ماكرون: “احنا مش أوربا وأمريكا وما يفيد في هذه البلاد لا يفيد في بلادنا”.

وكان السيسي يرد على سؤال حول حقوق الإنسان والديمقراطية وهو ما جعل إعلامه يردد مقولة شهيرة من عهد مبارك (إن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية).

أعوذ بالله ديمقراطي!

هذا الكلام الصادر من رأس النظام المصري يذكرني بفيلم (البداية) للمخرج المصري صلاح ابو سيف وتأليف لينين الرملي وهو من إنتاج ١٩٨٦..
وهو فيلم  كوميدي يحكى عن سقوط طائرة ركاب مصرية في الصحراء، وعليها أنماط مختلفة من المصريين وبالقرب من واحة  يتخذونها مستقرا لهم لحين إنقاذهم ..
وفى الفيلم يظهر الصراع بين الرأسمالي الانتهازي نبيه بيه (جميل راتب)، والفنان التشكيلي المثقف عادل صدقي (أحمد زكي) في محاولة كل منهما بسط سيطرته علي الجميع من خلال نظرية القوة والتسلط والخداع أو من خلال الديمقراطية التي يمثلها المثقف.

وفى مشهد من المشاهد المهمة يحاول نبيه بيه أن يستقطب إلى جواره صالح بطل مصر في الملاكمة، وسليم الفلاح البسيط وكلاهما ليس لهما حظ من المعرفة، ويحاول أن يستخدمهما ضد عادل فيقول:

“عادل ده محدش (لا أحد) يسمع كلامه … ده ما يعرفش ربنا .. ده ملحد …ده ديمقراطي والعياذ بالله” ..

فيرد عليه سليم (حمدي أحمد): يا ساتر .. ديمقراطي .. لا لا احنا لازم نفوقه ونرده”.

يذهب سليم ويعود ليقول: “يا نهار أبيض ده طلع فعلا ديمقراطي … ربنا يهديه”.

هكذا في مجتمع ينتشر فيه الجهل وعدم الوعي يطل علينا نائب للشعب ويقول: “لعنة الله على الديمقراطية” ..

لنكتشف أن ما كان فنتازيا سينمائية صار واقعا مريرا يعاني منه الشعب المصري والشعوب العربية المحيطة ..
فما زال على أرض العرب رئيس عاجز عن الحركة أو الخروج من قصره يصر على الترشح لولاية خامسة، ويقف الوزراء ليؤدوا اليمين الدستورية أمام صورته، ورغم ذلك نجد من يدعو لانتخابه هذا في الجزائر الذي بدأ شعبه الثورة على ترشح الجثة الهامدة للمرة الخامسة.

وفى السودان لا يزال رئيس يتمسك بالرئاسة رغم سنوات حكمه الثلاثين.

يبدو أن هذه الديمقراطية والعياذ بالله مرض لا يجب أن يمر على أرض عربية!

البداية حكم استبدادي على أرض جديدة

فيلم “البداية” يعرض في جوهر فكرته لتأسيس دولة في مجتمع عربي..
وفي مقدمة الفيلم يقول صلاح أبو سيف: “حاولت أن أقدم فيلما خياليا لكن وجدته يأخذ شكلا من واقع الحياة، يظهر ذلك التسلط في مجموعة بشرية ويفرض عليهم رجل الأعمال الانتهازي سلطة على مواد الواحة ممارسا حكما شموليا، ومرتكزا على سلاحه وذكائه وجبروته”.  

لعبة صارت واقعا مريرا

عندما أيقن نبيه بيه أنهم سيظلون في الواحة لفترة لا يعلم أحد مدتها، وعندما اكتشف أن الواحة مليئة بالخيرات، فأدرك بحسه الانتهازي أنه لابد أن يكون الحاكم في هذه الواحة ..
واخترع لعبة يلعبها الجميع يكون الفائز فيها هو صاحب هذه الواحة، والجميع يعمل لديه ..
وشارك الجميع في اللعبة على أساس أن المسألة مجرد هزل، وبعد أن استدرجهم نبيه إلى اللعبة وكسبها حتى يصل إلى آخر جولة مع سليم الفلاح، ويستغل جهله وطمعه ويعرض عليه خمسين دولارا مقابل التنازل عن نصف الواحة ويضحك سليم ويقول: “عصفور في اليد ولا واحة في الصحراء”..
وبينما يظن الجميع أنها مجرد لعبه هزلية يرفع نبيه السلاح في مواجهة الجميع محذرا أي شخص من الاقتراب من أملاكه .. هكذا صارت اللعبة حقيقة وصار الجميع تحت رحمة سلاح نبيه بيه حاكم نبيهاليا ومالكها!

استقطاب القوة وتكوين جهاز أمن

أيقن نبيه أنه يحتاج ليد قوية (جهاز أمني) يستطيع من خلاله أن يفرض سيطرته على الواحة؛ فاختار صالح الملاكم الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ لكنه الأقوى إذ يستطيع بقوة عضلاته أن يفرض الأمن وسماه الجنرال وأعطاه خوذه حديدية قديمة، وعصا وميزه عن الآخرين بمنحه اللقب الجنرال، وأجرا كبيرا في مقابل تحقيقه الأمن.

ثم استقطب الدكتورة الباحثة في مركز البحوث ليستغلها في أبحاث الواحة عن طريق استمالة عاطفية، ووعدها بالزواج،
وكذلك استقطاب المذيعة التليفزيونية شهيرة ( صفيه العمري) لتصبح لسانه الإعلامي ورئيس تحرير مجلة الحائط في الواحة.

المحكمة: الحاكم هو القاضي والادعاء والمحامي

في مشهد آخر من مشاهد فنتازيا (البداية) لصلاح أبو سيف يستطيع نبيه بيه أن يلوث سمعة عادل منافسه في المنهج ما بين التسلط والاستبداد والديمقراطية ..
فبعد مظاهرة كبيرة للجميع علي سياسات نبيه الاقتصادية والتي تعتمد على تجويع الجميع، يطلب منهم أن يختاروا واحدا فقط ليتحاور معه، وبالطبع يختار الجميع عادل ..
واستطاع نبيه أن يخدع عادل سواء عبر تقديم خمر -اخترعتها الدكتورة من تخمير البلح- أو عن طريق تشويه سمعته بادعاء أنه اتفق على تحصيل عدد من التمرات أكبر مما يحصل عليه بقية السكان، وبدأ الجميع يشك في عادل ..

 وتعقد محاكمة له، ويكون نبيه بيه هو القاضي والادعاء وحتى المحامي.. أما الحاجب فهو صالح يده الغليظة التي يضرب بها التمرد ويشوه بها منافسيه .. هل كان أبو سيف يقرأ المستقبل أم إنها شفافية الفن؟!

الثورة .. أنا أو الفوضى!

تتوالى المشاهد ويزداد السخط علي نبيه وسياساته ويصر الجميع علي إجراء انتخابات حرة يختارون عن طريقها حاكما للواحة ..
ويحاول نبيه بكل الطرق استقطاب المجموعة سواء عن طريق شراء الأصوات، أو وعوده لبعضهم بمزايا جديدة أو عن طريق وعود النساء بالزواج ..
ولكن الجميع يكتشف خداعه ويختارون عادل كحاكم والذي يبدأ في وضع قانون للواحة معتمدا على قوانين حقوق الإنسان والديمقراطية ..
فما كان من نبيه إلا أن حاول قتل عادل فهو لا يستطيع أن يفكر بشكل ديمقراطي، ولا يستطيع أن يعيش في مناخ الحرية ..
ثم يشعل النيران في القصر الذي يسكن فيه الجميع بعد أن كان يسكن فيه وحده، ويشعل النيران في كل الواحة .. مؤكدا نظريات مبارك: أنا أو الفوضى!   أو نظرية السيسي: أنا أو الإرهاب!
إنها بحق سينما تهزم أمام واقع أكثر فنتازيا من كل خيال السينمائيين ومن خيال أبوسيف والرملي!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه