واشنطن ترضخ وتركيا تنتصر

تجاهل تركيا تلك التهديدات كافة، وإعلانها أنه مهما بلغ حجم العقوبات التي يمكن أن تُفرض عليها، فإنها لن تتراجع عن حماية حدودها والحفاظ على أمنها القومي، وضع أمريكا في مأزق

 

لا يعرف العالم الا لغة القوة، ولا ينصت إلا لصوت أزيز الطائرات ولا يلتفت إلا لدوي القنابل وطلقات الرصاص، ولا يولي اهتماما فعليا إلا لمن يتجاهله.

حقيقة أثبتتها عملية ” نبع السلام ” التي أطلقتها تركيا في التاسع من الشهر الجاري، فعلى مدى شهور طويلة ظل المسؤولون الأتراك يطالبون الولايات المتحدة الامريكية بضرورة التوقف عن دعم التنظيمات المسلحة، وأهمية سحب عناصرها من أماكن تمركزها على الحدود التركية – السورية، وسحب أسلحتها الثقيلة، وتدمير كافة معسكراتها ومخازن ذخيرتها.

لا حياة لمن تنادي

 شهور طويلة  والدبلوماسيون الأتراك يجوبون العالم لشرح أبعاد الخطر الذي تمثله تلك التنظيمات المسلحة،  ليس فقط على وحدة الأراضي السورية، ولكن على حدود تركيا بحكم كونها جارة ملاصقة لسورية، وأن ذلك التواجد والانتشار المكثف يعد تهديدا صريحا ومباشرا لأمن بلدهم القومي، لكن هذه الدعوات ذهبت أدراج الرياح، ولم تجد أية استجابة فعلية، تتخطى حدود الإعلان عن “تفهم تلك المخاوف”. فلا أوربا تحركت لتبديد تلك المخاوف، ولا الولايات المتحدة توقفت عن دعمها العسكري واللوجيستي لعناصر تلك التنظيمات، ولو على الأقل من باب طمأنة تركيا كحليف تاريخي لها، والسعي لدرء المخاطر التي تشعر بها وعبروا عن تفهمهم لها جميعا، لتتحول المشكلة شيئاً فشيئاً إلى أزمة فعلية سواء على الصعيد الإقليمي أو على صعيد العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

التحرك العسكري والمأزق الامريكي

 إلا أنه وخلال تسعة أيام فقط من بدء التحرك العسكري الذي قامت به تركيا لإنهاء المشكلة والقضاء على الخطر الذي يقترب من حدودها ويهدد أمنها القومي، ارتفعت أصوات المجتمع الدولي بتهديدات اقتصادية وفرض عقوبات عسكرية والتلويح بمقاطعات سياسية ودبلوماسية.

تجاهل تركيا تلك التهديدات كافة، وإعلانها أنه مهما بلغ حجم العقوبات، التي يمكن أن تُفرض عليها، فإنها لن تتراجع عن حماية حدودها والحفاظ على أمنها القومي، وضع الإدارة الامريكية في مأزق فهي من ناحية تريد الحفاظ على صورتها كأكبر دولة في العالم ولها كلمة مسموعة، ومن ناحية أخرى لا تريد أن تخسر تركيا كحليف له أهميته بالنسبة لها، فكان التحرك على محورين أولهما اقتصادي بفرض عقوبات غير فاعلة حفاظا على ماء الوجه أمام المجتمع الدولي، والآخر دبلوماسي عبر إرسال وفد سياسي رفيع المستوى يضم إلي جانب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، كلا من وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، وجيمس جيفري المبعوث الخاص إلى سوريا، وسفير واشنطن لدى أنقرة ديفيد سترفيلد، بهدف التوصل إلى حل يُنهي العملية العسكرية في شمال سوريا، ويلبي أهداف تركيا التي تسعى لتحقيقها من خلال ذلك التحرك العسكري.

تركيا تعلن انتصار إرادتها

لتعلن تركيا في تصريحات رسمية تحقيق كافة مطالبها وأهداف عمليتها العسكرية عقب اجتماعين مطولين للوفد الأمريكي مع المسؤولين الأتراك استغرقا أكثر من ست ساعات متواصلة، وأن الجانبين اتفقا على رحيل جميع عناصر التنظيمات المسلحة إلى داخل عمق الأراضي السورية، وتسليم أسلحتهم الثقيلة للقوات الامريكية قبيل مغادرتهم، مع تدمير قواعدهم ومعسكراتهم ومخازن الذخائر التي بحوزتهم خلال خمسة أيام منذ بدء تنفيذ قرار تعليق العملية العسكرية، وموافقة الولايات المتحدة الامريكية على قيام تركيا بإنشاء المنطقة الآمنة بعمق 32 كيلو مترا داخل سوريا، وعرض 444 كيلومترا حتى حدود العراق شرق نهر الفرات، والإشراف الكامل عليها.

المكاسب الحقيقية من وراء الاتفاق

الانتصار الذي أحرزته تركيا في هذه الجولة، من خلال وقف عمليتها العسكرية لمدة خمسة أيام، في حال تم تنفيذ البنود التي تضمنها البيان الرسمي، يمكن رصده في النقاط   التالية:

1 – نجحت تركيا في انتزاع اعتراف أمريكي بالمنطقة الآمنة التي تطالب بها منذ أكثر من سنتين، ووفق المساحة الجغرافية التي تريدها تماما (32 كيلو مترا طولا وأربعمئة وأربعة وأربعون كيلومترا عرضا) وهو الوضع الذي سيسمح لها بإعادة تأسيس البنية التحتية لتلك المناطق وتهيئتها حتى يمكن إعادة مليونين من اللاجئين السوريين للعيش بها على أقل تقدير، وتخفيف العبء عن الداخل التركي.

2 – ضمنت تركيا من خلال هذا الاتفاق إشرافها الكامل على المنطقة الآمنة، وهو المطلب الذي كان أحد أسباب خلافاتها مع واشنطن، التي كانت ترغب في تكليف المكون العربي داخل وحدات حماية الشعب (عددهم حوالي 700 فرد) بالقيام بتلك المهمة، تحت مراقبة وإشراف قوات التحالف الدولي، وهو ما رفضته تركيا، حيث إن ذلك كان يعني من وجهة نظرها تسليم المنطقة الآمنة للعناصر المسلحة من وحدات حماية الشعب وحليفها حزب العمال الكردستاني على طبق من ذهب.

3 – الاتفاق بصورته المبدئية يمنح تركيا الفرصة كاملة لتقويض حركة عناصر حزب العمال الكردستاني في الشمال السوري، وإرغامهم إما على العودة لطاولة المفاوضات وإلقاء السلاح الذي يرفعونه ضد الدولة التركية منذ ثمانينيات القرن الماضي، أو استئناف ملاحقتهم من جانب الجيش التركي والتصدي لأنشطتهم الانفصالية، خصوصا وأن المنطقة الآمنة ستضمن للدولة التركية وجود فاصل جغرافي بين العمال الكردستاني وبين وحدات حماية الشعب التي سيكون عليها مراجعة كافة علاقاتها ومواقفها المرتبطة بعناصر التنظيمات الاخرى في المنطقة.

4 – ضمنت تركيا بهذا الاتفاق ليس فقط وقف الضغوط الأوربية عليها ومنع تعرضها لأية عقوبات سواء اقتصادية أو عسكرية، بل أيضا الحصول على مساعدات مالية لإنشاء المنطقة الآمنة وتهيئتها لاستقبال ملايين من اللاجئين السوريين الذين تخشى أوربا من هجرتهم إليها، إذ طالب رئيس وزراء المجر في تصريح له الاتحاد الأوربي بضرورة توفير التمويل اللازم لمشاريع تركيا الخاصة بإنشاء مدن يستطيع اللاجئون السوريون العودة إليها، محذرا من أن التقاعس عن القيام بذلك يعني وصول هؤلاء اللاجئين إلى أوربا.

5 – يعزز هذا الاتفاق موقف تركيا التفاوضي مع كل من روسيا والنظام السوري بشأن باقي مناطق الشمال الشرقي، في منبج وكوباني وإلى الغرب من الفرات، لضمان إنهاء وجود العناصر المسلحة واستكمال حدود المنطقة الآمنة وفق التصور التركي.

6 – يتيح الاتفاق أيضا – في حال تنفيذه – إمكانية استعادة العلاقات التركية – الأمريكية لجزء كبير من الثقة المفقودة بينهما، الأمر الذي من شأنه المساهمة في زيادة حجم تعاونهما خصوصا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، حيث تدرك الولايات المتحدة الامريكية أهمية تركيا كعضو في حلف الناتو، وكحليف لديه موقع  يخدم المصالح الامريكية في هذا الجزء من العالم، كما أن تركيا تطمح إلى زيادة التعاون العسكري مع واشنطن، وحل أزمة صواريخ إس – 35 إلى جانب رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى مئة مليار دولار سنويا.

7 – تولي تركيا إدارة المنطقة الآمنة بمفردها سيؤمن لها مكانا على طاولة المفاوضات عند أي حديث عن حل سياسي للأزمة السورية، الأمر الذي يعزز موقفها الداعم لفصائل المعارضة السورية، ويمنحها الفرصة لتحقيق مكاسب سياسية حال وضع التصور النهائي لشكل النظام السوري الجديد.

8 – انتزاع اعتراف أمريكي بعدم قدرة وحدات حماية الشعب العسكرية على فرض سيطرتها على مناطق شمال سوريا وحمايتها، الأمر الذي يعني تلقائيا تفنيد الادعاءات الخاصة بقدرتها على مواجهة عناصر تنظيم داعش بمفردها، والتشكيك في قدرتها على حماية المنطقة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه