هيكل” أستاذ الصحافة وصانع الاستبداد”

؟، أين هذا السطر في كتاب حياة هيكل الذي يفعل تلاميذه ومريدوه ومحبوه كل ما هو ممكن لتخليد اسمه، وجعله وحيداً بلا منافس في عالم الصحافة

 

مرت قبل أيام الذكرى الرابعة لوفاة الأستاذ محمد حسنين هيكل (17 من فبراير/شباط 2016)، وخلال حياته حضرت ندوتين له، وشاهدت معظم حواراته التلفزيوينة المسجلة في سنواته الأخيرة، وقرأت مقالاته، وقلبت في كتبه، وهو قيمة صحفية كبيرة لا يمكن التقليل منها، ولا التشكيك فيها.

لكن قيمة الشخص لا بد أن يكون فيها الجانب الباهر الذي يفتخر التاريخ بتسجيله، وقد يحدث أن تفتقد القيمة لهذا الجانب، وتكون قد تحققت للشخص في جانب آخر عادي لا يترك بصمة ذات حضور ملفت في التاريخ.

كاثرين غراهام وهيكل

في الحالة الأولى يحضرني موقف كاثرين غراهام، ناشرة “واشنطن بوست”، عندما حصلت جريدتها على ما تم تسميته “أوراق البنتاغون” (1971)، وهو تقرير حكومي سري عن حرب فيتنام، والتورط الأمريكي فيها، والخسائر الحقيقية للجيش، وكافة جوانب هذه الحرب الطويلة المعقدة، وفي لحظة شديدة القلق والصعوبة على هذه السيدة اتخذت بشجاعة قراراً بنشر الأوراق السرية، وضربت عرض الحائط بالأزمة المالية لصحيفتها، ولم تأبه بالعرض الذي قدمه رجال أعمال لإنقاذها، وكان مشروطاً بالتدخل والتوجيه للسياسة التحريرية.

انتصرت كاثرين لقيمة استقلال الصحافة، وتكريس الديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وحق القارئ الأصيل في المعرفة، والاطلاع على الحقيقة كاملة مهما كانت صادمة، ومواجهة ضغوط الإدارة الحاكمة، وعدم الانصياع لتهديداتها، والنضال في المحاكم، وتحدي الرقابة الحكومية طالما لا يوجد انتهاك للأمن القومي، أو تعريض مصالح البلاد للخطر.

هذا الموقف سطره التاريخ لـ كاثرين، وأضاف إليه موقفاً آخر، هو تصدي جريدتها للنشر في قضية “ووترغيت”، وهي الفضيحة التي هزت أمريكا والعالم، وانتهت بإجبار الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون على الاستقالة، وكانت نصراً صحفياً مدوياً.

ولهذا فازت مذكراتها التي حملت عنوان “التاريخ الشخصي” بجائزة بوليتزر عام (1998)، وهناك فيلم بديع عن قصة أوراق البنتاغون اسمه The Post، (2017) قدم كاثرين جراهام بما تستحقه من تقدير.

خارج التاريخ

في حالة القيمة التي تخلو من الموقف التاريخي، تقديري أنها تنطبق على هيكل رغم ما حققه من إنجازات في مهنة الصحافة وحرفة الكتابة والتأريخ، وكان له دور سياسي واستشاري كبير مع الرئيس جمال عبدالناصر، واعتبر عبدالله السناوي، وهو أحد مريديه، في ندوة بنقابة الصحفيين قبل أيام، أن هيكل كان بمثابة مستشار الأمن القومي لعبدالناصر.

هذه القيمة لا تتضمن الموقف الذي يتباهى به التاريخ، ولا تنساه الذاكرة الصحفية والسياسية والشعبية، كما فعلت السيدة غراهام، إنه الموقف الذي يساهم في إحداث تغيير مؤثر في حياة الوطن والشعب، ويغير مسار الأحداث الكبرى.

 وليس هناك أهم من قضية دعم الحريات العامة، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير، والدعوة للديمقراطية، واستقلالية المؤسسات، وتمكين الإرادة الشعبية، والدفاع عن حقوق الإنسان، لكي تتم مراجعة مسيرة هيكل على مسطرة هذه القيم، خاصة خلال حكم عبدالناصر حيث كان قريباً جداً منه، وكان صاحب شأن ونفوذ، وكان بإمكانه لعب دور في تفعيل أحد مبادئ 23 يوليو 1952، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

الأحق بالتقدير

ما لم يسجل القائد النخبوي سطراً مهماً ومؤثراً في حياته العملية، فبماذا يستحق الذكر والارتقاء بسيرته حياً وميتاً؟ أين هذا السطر في كتاب حياة هيكل الذي يفعل تلاميذه ومريدوه ومحبوه كل ما هو ممكن لتخليد اسمه، وجعله وحيداً بلا منافس في عالم الصحافة والفكر سواء خلال حياته أو بعد مماته؟

هيكل في هذه القضية، أم مصطفى أمين، وجلال الدين الحمامصي، ومصطفى شردي، وعادل حسين مثلاً؟ أعتقد أن هؤلاء الكتاب ضمن آخرين سجلوا في مسيرتهم مساحات جيدة في الدفاع عن الحريات، ونقد الاستبداد، والتصدي لانتهاكات السلطة في ملف حقوق وكرامة الإنسان، وكان جهدهم في الكتابة موجهاً لتمكين الشعب في ممارسة حقه في الاختيار الحر، وكانوا يعملون في ظل نظام استبدادي، مثلما كان هيكل أيضاً، لكن الأخير كان جزءًا من هذا النظام، ولاعباً أساسياً فيه، وليس معارضاً له، ومقيداً في أدواته وحركته.

الترويج للاستبداد

ونرى هنا وجهين للأستاذ هيكل، الأول وجه الصحفي والكاتب البارع، والثاني وجه الداعم والمروج للاستبداد الناعم.

ومع هذا نسأل: هل كان مؤمناً بالديمقراطية، خاصة وأنه بدأ عمله الصحفي في العهد الملكي حيث المناخ الليبرالي المنفتح، وأن تأثير عبدالناصر عليه كان كبيراً، فلم يُفصح عن هذا الإيمان، أم أن الطموح الشخصي، والاسم والشهرة والمكانة التي وجد أنه قادر على بنائها منعته من التعبير عن مكنوناته وخياراته الأصلية حتى يظل قريباً من رأس السلطة مستفيداً مما يوفره له هذا الوضع من معلومات وأفكار ونفوذ لن يتوفر لأحد غيره من معاصريه حتى لو كانوا من رموز المرحلة، مثل أستاذه محمد التابعي، وأقرانه مصطفى وعلي أمين، وإحسان عبدالقدوس، وأيضاً سيد قطب، ككاتب ومفكر، قبل أن يختلف مع عبدالناصر، ويفترق طريقهما، ويدخل متاهة السجن، ثم الإعدام؟

هيكل السياسي

تقديري أن هيكل الصحفي، غير هيكل السياسي، أو المحلل والموجه والعقل السياسي، وإذا كان يصعب الفصل بينهما في حالته، وإذا كان يصعب قبول أن دوره كان ممارسة مهنة الجورنالجي فقط، والتي كان يعتز بها، وباسم الجورنالجي، فالحقيقة أن السياسة مكون أساسي في شخصيته وعمله وبروز نجوميته، ولولا دوره السياسي بجوار عبد الناصر لما كان هيكل الاسم الأوحد المتسيد للساحة الصحفية في مصر طوال العهد الناصري، وخلال سنوات عدة في حكم السادات حتى أقاله من عرينه في مؤسسة الأهرام.

وجه شمولي

المشكلة مع الوجه السياسي لهيكل، أنه غير ديمقراطي، يحتمل كل مفردات أوصاف النهج الذي يصنع الحاكم نصف الإله، وهى وصفة الحاكم القروسطي الذي دفنته أوربا مع الثورة الفرنسية، وهو ساعد في نشوء هذا النوع من الحكم، الذي تَعمّمّ في المنطقة العربية.

لم يكن هو الحاكم المباشر، إنما كان جزءاً من العقل الذي ساهم في بناء هذا الحاكم، كان مستشار عبدالناصر الصحفي، والمحلل السياسي له، والمفكر معه فيما يجب فعله في الحكم، والمقرب منه في الاستشارات الخاصة، والفم الذي يتحدث للزعيم، والأذن التي تنصت لهذا الزعيم، وتلتقط ما يريد قوله، وتروج الرسائل التي يرغب بتوجيهها، فيكتب ذلك في مقاله الأسبوعي في الأهرام، ويصيغه في خطب وبيانات وتصريحات رسمية مكتوبة، أو في خطوط ومحاور عامة يتحدث فيها عبدالناصر شفاهة، أو يحملها في رسائل لمسؤولين في الخارج.

من هذا، وغيره من أدوار متعددة ومتنوعة قام بها مع عبدالناصر ساهم في تمتين نموذج حكم الفرد المطلق الصلاحيات المستبد بالسلطات والمؤسسات الذي بدأ مع تأسيس الجمهورية، واستمر وترسخ هذا النموذج من عهد إلى عهد، ولم تفلح ثورة 25 يناير في إزالة هذا الإرث المناقض لحركة التاريخ، وبناء نموذج الحاكم المدني المنتخب الذي يتداول السلطة مع الآخرين.

هيكل و 3 يوليو

فشلت تجربة يناير في تأسيس نظام حكم شعبي، أو أُفشلت، أياً يكن الأمر، فقد أفلتت الفرصة التاريخية النادرة، لقطع دابر الفرعونية المتجذرة في تراب هذا البلد قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيلاً، وحاكماً بعد حاكم، وفي هذه يبرز أيضاً اسم هيكل كلاعب في طبيعة التغيير الذي جرى بإزاحة الإخوان من الحكم سريعاً.

 وياسر رزق، رئيس مؤسسة أخبار اليوم، وأحد القريبين من هيكل، يؤكد في الندوة نفسها بنقابة الصحفيين، وصف البعض للكاتب المخضرم بأنه عراب 3 يوليو 2013 حيث قال: ” إذا كان هيكل أحد صناع مشروع 23 يوليو مع عبدالناصر، ورفاقه، فإن الدور الحقيقي  الأكبر له كان في ثورة 30 يونيو، وبيان 3 يوليو، وأنا أعرف بعض التفاصيل عن هذا الدور، وأتمنى لو كان الأستاذ دونها في مذكراته”.

مكانة هيكل الصحفي، وأسلوبه الأخاذ في الكتابة، والوثائق التي ينفرد بها في كتبه، كل هذا مهم، لكن الأكثر أهمية والأبقى هي صفحة النضال الحقيقي من أجل الحكم الرشيد، هذا هو الفيصل بين تاريخ ومجد شخصي، وبين تاريخ ومجد وطني وإنساني، والأولى هي هيكل، والثانية يخلو منها هيكل.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه