هل مازال لفظ “عانس” جارحاً؟

وفي الوقت الذي تُفضّل فيه “العانس” البقاء وحيدة، تقبل غيرها بـ “ظل راجل ولا ظلّ حيطة” للهروب من انتقاد المجتمع ولا تشغل بالها بمسألة التناغم المشروط بين الطرفين

   في كل مرّة تتقدّم فيها قضيّة المرأة في تونس درجة ما على سُلّم المكاسب، تتعالى أصوات النّقد المُنزعجة من هذه الخطوات. اِنزعاجٌ ينطلق فيه عنان الشارع التونسي بكل طلاقة مُتّهكّما حينا ومُتخوّفا أحيانا من سقف الحريات الذي ما انفك يعلو بتسارعٍ ليصل حدود الاستعراض.

فالمرأة التونسية تحتفل يوم 13 أغسطس بعيدها الوطني، زيادة على عيدها العالمي. وتُتوّج هذا اليوم بتفعيل حزمة قوانين لصالحها، تُضيفها إلى بقية المكاسب. مكاسب يواجهها الشارع التونسي غالبا بكمّ كبير من التّذمّر من مُغالاة التيار النّسوي التونسي في محاكاة نضالات المرأة في المجتمعات الغربية، والحال أنّ السواد الأعظم في مجتمعاتنا يرى أنّ الهدف من هذه القوانين القاسية هو ضرب صورة الرّجل وتصويره على أساس الـ “خصم”.

    “خصم” تحتاجه المرأة العربية كزوج لاستيفاء شروط الرّضا الاجتماعي عنها، غير ذلك، ستبقى “عانسا” في الوعي العام ولو تألّقت مهنيا ووطأت قدماها القمر.

أحسن بورقيبة

    مما لا شكّ فيه أنّ قضيّة المرأة في تونس تُعتبر قضية عريقة أحسن الرئيس السابق بورقيبة استثمارها في ترسيخ حكمه وكسب الدعم الخارجي من جهة، وغفر بها لنفسه أخطاء وجرائم سياسية كبيرة من جهة أخرى، لم تكن لتبقيه في منصبه لولا هذه الورقة الرّابحة.

ورغم أنّ توجّهات بن علي من بعده أرادت مواصلة استثمار هذه الورقة، إلّا أن فقره الفكري وجهل زوجته بطبيعة النضال، أضرّت بها ولم تخدمها. اذ ارتبط النضال النسوي في عهدها بفئة اجتماعية معينة حصرت معركتها في الصالونات، خصوصا وأنّ الصّف الأوّل للمناضلات المتصدّرات للمشهد النسائي داخل البلاد وخارجها انصاع لهواها تماما، ولم يحرص على تصحيح مسار القضية.

 فإذا تجاوزنا الصّدى الإيجابي في الخارج لكل مكسب تحققه المرأة التونسية (ولا غرابة، فمدارس النضال النسوي الغربي طالما مثّلت المُلهم والسّند المعنوي لها)، وتتبّعنا صدى هذه المكاسب في الدّاخل فسنقف على تناقض صارخ بين المُهلّلين والنّاقدين والغاضبين.

    فالمُهلّلون يفاخرون بسقف حريات المرأة التونسية العالي ويباركون على الدّوام كل الخطوات نحو مزيد من المطالب. أمّا النّاقدون فيمثّلون سندا موضوعيا لضرورة حضور القضية في المجتمع والتقدم بها ولكنهم يعيبون على الجمعيات النسوية شكل النضال الفئوي الاستعراضي، ويعيبون عليهن خصوصا الوصول بالمطالب إلى مشهد يفضح هوّة تفاضلية ساحقة بين مستوى حقوقي “اسكندنافي” تقريبا لساكنة المدينة ومستوى حقوقي “فيلبيني” لساكنة الدواخل والأرياف.

أمّا الغاضبون فيشملون أولئك الذين مازالوا يعتمدون “الجنس” كمعطى لتعريف الإنسان، ويطعمونه بقليل من بهارات المقاييس الجاهلية (والتي دحضها الإسلام منذ قرون)، وبناء عليه فقيمة المرأة في المجتمع تبقى دائما أدنى من الرّجل في نظرهم. وفي الحقيقة فإن هذه الفئة الأخيرة لا تكتسب الشجاعة الكافية للتصريح بمواقفها الذكورية في المجتمع التونسي، لكن مواقفها تتسرّب من خلال حملات الاستخفاف والتّهكّم مثلا من مكاسب المرأة التونسية في كل مناسبة احتفاليّة. والثابت أن فئة من النّاقدين السّطحيين تنساق مع هذه الفئة بكل سذاجة، لتجتمع معها في الأخير في نفس الموقف الرّجعي.

اللعنة التي حلت

وفي كل مرة تُبارك فيها المؤسسات الحقوقية النسوية إنجازا ما أو أطلعنا المعهد الأعلى للإحصاء على أرقام تكشف تجاوز عدد الإناث الذكور في التركيبة السكانية للبلد أو انخفاض مستويات الزواج والإنجاب، إلّا وفُتِحت أبواب النقاش العام على مصراعيها لتُغرقنا بمعجم يطغى فيه تداول لفظ “العانس” بكلّ تشفٍّ. على أساس أن ارتفاع معدلات العنوسة هو بمثابة اللّعنة التي حلّت بالمرأة التونسية وهي تحُثّ الخطى نحو تحقيق المساواة.

  بالتّأكيد أن هذا اللّفظ كان مُؤلما اجتماعيّا في حقبة كانت تُعتبر فيها المرأة “ناقصة” ولا تكتمل سوى باقتران وجودها برجل في إطار الزواج. لكن تطوّر المجتمعات وانصياعها لإرغامات الحداثة انتقلت بـ “الزواج” من خانة الوجوبيّة إلى خانة الاختيار، وبالتالي فإنّ المُعطى الثقافي المحلّي لكل مجتمع يمكن أن يحافظ على مكانته العُلويّة في الأعراف الاجتماعية لكنّ إمكانيّة تجاوزه وربّما دحضه في عُقر داره قائمة باسم التّشريعات والحداثة. وبالتالي فإنّ الأربعينية أو حتى الثلاثينية مثلا تُعتبر “عانسا” في عقول التّقليديين، و”عزباء” في عقول الحداثيين.

   ونكاد نُجمع ونحن المواكبون للتحولات الثقافية العاصفة بهذه الأجيال، أنّ لفظ “عانس” عند العرب يكشف رواسب تفكير ذكوريّ يوحي بالشماتة والاستنقاص من قيمة المرأة ويحرص على عدم تفشّي فكرة أن تكون حالة العنوسة نتاج قرار شخصي من المرأة باعتبارها أصبحت تتمتّع بحقّ رفض من لا تراه مناسبا لها، أو حتّى تنشغل عن فكرة الزواج ببرامج حياتية أخرى. وفي الوقت الذي تُفضّل فيه “العانس” البقاء وحيدة، تقبل غيرها بـ “ظل راجل ولا ظلّ حيطة” للهروب من نقد المجتمع ولا تشغل بالها بمسألة التناغم المشروط بين الطرفين للإقدام على مشروع الزواج. وهي نفسها تتداول بانتشاء لفظ عانس على أخرى قد تكون ذات ظرف مماثل.

   لا شك أن ظاهرة العنوسة أو التأخر في سنّ الزواج مسألة اجتماعية مقلقة خصوصا وأنها ترسم مستقبل المجتمعات الديمغرافية، لكن إذا كانت العنوسة في بلداننا رهينة رغبة الرجال في الزواج حسب تفكير البعض، لماذا لا نجزع بخصوص ” عنوسة” الرجال أيضا في ظل تفاقم البطالة وانهيار القيم والتهرّب من فكرة الارتباط أصلا…؟ ثم لماذا ترتبط فكرة العنوسة غالبا في الوعي العام بالشفقة والحرمان الجنسي للمرأة والحال أنّ زخم الاهتمامات والالتزامات المهنية في عصرنا جعلت الجنس مصدرا ثانويا جدا لتحقيق الإشباع (الحالة اليابانية مثالا).

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه