هل تصحح الثورة السودانية مسارها؟

 

حين خرج الشعب السوداني أواخر ديسمبر 2018 ضد نظام الرئيس عمر البشير الذي قضى حوالي ثلاثين عاما في السلطة بعد انقلاب عسكري في صيف العام 1989 كان ظن الكثيرين أن ما يحدث هو ثورة شعبية حقيقية فتحت الباب لموجة ثورية ثانية للربيع العربي شملت الجزائر أيضا ووصلت رياحها إلى لبنان والعراق وجزئيا إلى الأردن في اعتصامات الدوار الرابع التي بدأ الأردنيون يسددون فاتورتها الآن.

رغم أنني عرفت مبكرا طبيعة القوى السياسية المتصدرة للحراك السوداني، أو التي فرضت نفسها عليه وهي قوى يسارية وبعثية بالأساس إلا أنني كنت أحاول تخطئة نفسي، متمنيا للثورة نجاحا حقيقيا في جلب الحرية والكرامة والسلام الذي حرم منه الشعب السوداني ولا يزال حتى الآن.

قبل اندلاع المظاهرات في 19 ديسمبر بأسبوع واحد (أي يوم 12 ديسمبر) كنت أحط رحالي في مطار الخرطوم بدعوة رسمية من اتحاد الصحفيين السودانيين للمشاركة في الجمعية العمومية للصحفيين الأفارقة، كان في استقبالي وغيري من المشاركين في صالة كبار الزوار بالمطار رئيس الاتحاد الدكتور الصادق الرزيقي وأعضاء مجلسه، وخلال تقديم واجب الضيافة، حمل موظفو العلاقات العامة بالاتحاد جوازات سفرنا لختمها بخاتم الدخول، لكنهم فوجئوا برفض ضابط الجوازات ختم جواز سفري، وعاد إلي الدكتور الرزيقي بوجه غير الذي ذهب به، متسائلا ما هي مشكلتك مع الدولة، وهل كتبت شيئا ضد النظام حتى يرفضوا ختم جوازك؟ وبينما اختفى الرزيقي لبعض الوقت لبذل مساعي حميدة كان ضابطان يقتاداني بطريقة عاجلة خارج صالة كبار الزوار لألحق بالطائرة ذاتها التي أقلتني من إسطنبول، وقد توقعت ساعتها أن النظام السوداني يمكن أن يسلمني للقاهرة حيث فعلها مع البعض قبلي، ولم أطمئن إلا بعد دخولي إلى الطائرة التركية، الحقيقة أنني لم أكتب شيئا ضد نظام البشير في السنوات الأخيرة رغم إدراكي لأخطائه بحق السودان وبحق المبادئ التي انتمى إليها، لسببين أولا لأنني كنت مشغولا بشئوننا المصرية، وثانيا لأن لنا عددا كبيرا من المصريين رافضي الانقلاب وفر لهم نظام البشير ملاذا أمنا في السودان من بطش النظام المصري وكنت شخصيا أحد الذين خرجوا إلى الخرطوم مباشرة بعد فض اعتصام رابعة، وأي كتابة سلبية من ناحيتي ستؤثر على وضعهم، حتى أنني امتنعت عن التصريح علنا بأي شيء عن منع دخولي إلى السودان للسبب ذاته ( وهو الحرص على عدم تضرر باقي المصريين اللاجئين إلى السودان والذين طلب بعضهم مني أن أكظم غيظي للمصلحة العامة وقد فعلت).

لقاء البشير:

وللذكرى أيضا فأنا أعتقد أنني كنت أول صحفي مصري شاب يلتقي البشير عقب انقلاب 1989، كنت وقتها صحفيا بجريدة الشعب، وسافرت برفقة الراحل عادل حسين رئيس التحرير في ذلك الوقت والذي كانت تربطه صداقة حميمة مع قادة الإنقاذ وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي والرئيس البشير، كان البشير وقتها لا يزال يعيش حياة الزهد في بيت متواضع، وكان لا يزال قابضا على جمر المبادئ قبل أن تفسده السلطة المطلقة.

رغم الموقف المؤلم الذي تعرضت له من حكومة البشير دون مبرر يوم 12 ديسمبر 2019، إلا أنني كنت منتبها للحراك الذي تم منذ اللحظات الأولى، فلم أؤيده ولم أعارضه علنا، ورغم شكوكي التي كانت تتصاعد مع الوقت إلا أنني تمنيت صادقا أن يحظى الشعب السوداني بحريته وكرامته، فمن ذاق الظلم لا يمكن أن يقبله لغيره حتى لو جاء ممن هم محسوبون على التيار الذي ينتمي إليه، كما أنني في الوقت نفسه لم أبخل بنصح لنظام البشير عبر قنوات اتصال خاصة بضرورة أن يعلن البشير استقالته، أو على الأقل استكمال بقية مدته فقط، وخلال ما تبقى منها يسهم في نقل البلاد إلى حالة ديمقراطية حقيقية بإنجاز دستور توافقي، وانتخابات نزيهة، لكن قنوات الاتصال تلك كانت ترد أن الرجل وضع أصابعه في آذانه فلم يعد يسمع لنصح من أحد.

المهم أن الحراك الجماهيري أتى أكله بخلع البشير، واعتقاله ومحاكمته، وعدد من أركان حكمه، ولكن بدأت الصورة تتكشف أكثر فأكثر عن المتصدرين للمشهد الثوري والذين لم يجمعهم سوى العداء لنظام البشير، ورغبتهم المشتركة في الخلاص منه، لكنهم لم يكن لديهم رؤية موحدة للسودان الجديد الذي يريدون، والأهم من ذلك هو ظهور المطامع والمطامح الشخصية، والرغبة في الوصول والاستئثار بالسلطة وتاليا الثروة، فكم كان عجيبا أن قوى الحرية والتغيير التي تصدرت الحراك الجماهيري وهي قوى مدنية تطلب من المجلس العسكري إطالة أمد الفترة الانتقالية لمدة 4 أعوام بينما يعرض العسكر عاما واحدا فقط!!، وتصر تلك القوى على مطلبها فيقبل العسكر مدة ثلاث سنوات وستة أشهر، تدرك تلك القوى التي تصدرت المشهد أنها لا تقوى على أي منافسة انتخابية حقيقية، فتفر وتنفر من الانتخابات، وتحرص على تبوئ السلطة بقرار سياسي وليس بتفويض شعبي، وحين أتيح لهذه القوى جزء من السلطة تنافست وتنازعت عليه، وكاد أن يقتل بعضها بعضا.

هبل الحلفاء:

لم يقتصر “هبل” حلفاء الأمس على المناصب السياسية بل راح يفرض على الشعب أجندة نخبوية لا تمثل أي أولوية للشعب الذي يقضي نصف يومه في طوابير الخبز والوقود إلخ، مثل قضايا الختان، وزواج القاصرات، وإقرار وثيقة الأسرة، وإلغاء الحدود الشرعية إلخ، فالعجز عن تحقيق نجاح على المستويات السياسية والاقتصادية يتم تغطيته بافتعال معارك هامشية.

لم يطق حلفاء الأمس صبرا على أنفسهم وعلى تحالفهم (قوى الحرية والتغيير) قبل أن يكمل سنتين، فانسحب البعض في هدوء مثل حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، لكن فريقا منهم أبى إلا أن يخرج “بالطبل البلدي”، وهو تجمع المهنيين (الجناح المهني للحزب الشيوعي السوداني)، فأعلن – في ضجة إعلامية- انسحابه من هياكل قوى الحرية والتغيير، وراح يبحث عن مظلة جديدة متحالفا مع إحدى الحركات الانفصالية المسلحة، في البداية تصورت أنها خطوة لتصحيح المسار، لكنني ما لبثت أن اكتشفت أنها مزايدة على بقية الحلفاء، ورغبة في التأزيم حيث لا يستطيع هذا الفريق العيش في أجواء طبيعية، كما ظهر أن هذا التجمع (المهنيين) منقسم أصلا إلى قسمين، وأن المنسحبين هم قسم منه، مع بقاء قسم آخر، والغريب أن تجمع المهنيين بشطريه “استملح” فكرة البقاء بصيغته الحالية التي كانت نتيجة ظروف خاصة في ظل حكم البشير حيث سيطر الإسلاميون على النقابات المهنية في ذاك الوقت فأنشأ الشيوعيون بعض الروابط المهنية خارج الإطار النقابي الرسمي، وأطلقوا عليها لاحقا تجمع المهنيين، ورغم أن الفرصة مهيأة أمامهم اليوم لإجراء انتخابات جديدة في النقابات بعد حل مجالسها القديمة إلا أنهم لم يهتموا بهذا الأمر وظلوا حريصين على شكلهم الحالي البعيد عن الانتخابات “ودوشتها”.

أكثر المستفيدين من انقسامات قوى الحرية والتغيير هو المجلس العسكري الذي ستصبح الطريق ممهدة أمامه للبقاء في الحكم لفترة أطول، مع إطلاق قبضته في تصريف شؤون البلاد، وتعيين من يشاء وإبعاد من يشاء، في الوقت الذي يتواصل فشل هذا المجلس أيضا في إدارة شئون البلاد رغم الدعم الدولي الذي تلقاه في مؤتمر المانحين في برلين في 25 يونيو الماضي والذي بلغ 1.8 مليار دولار، حيث لم يشفع هذا الدعم في وقف تدهور الجنيه السوداني أمام الدولار، كما لم يفلح في إنهاء طوابير الخبز والغاز، وتراجع الخدمات.

تحتاج الثورة السودانية إلى تصحيح مسار لتعود معبرة عن مطالب الشعب الحقيقية، ولتنتج حكما قادرا على تحقيق هذه المطالب، ويبدو أن تدهور الأوضاع في السودان يدفع بقوة نحو حراك جديد يصحح أخطاء الماضي القريب والبعيد.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه