هل أفلت ملف اغتيال خاشقجي من يد تركيا؟

يرى البعض أن ملف اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، تم إغلاقه، عقب بيان الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، الذي دافع فيه عن محمد بن سلمان واجتهد في نفي الشبهة عنه، إلى حد التشكيك في النتائج التي توصلت إليها وكالة الاستخبارات الأمريكية، ترمب في معرض دفاعه عن نفسه عقب ذلك البيان بساعات، قطع الشوط إلى نهايته في قفزة واحدة عندما أعلن أنه لولا وجود السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة، وربط استمرار الكيان الصهيوني بوجود النظام السعودي، إضافة إلى تبريرات اقتصادية، تزامنا مع تحركات أوربية في مجملها شكلي لم ترتقِ إلى فداحة الحادث وتداعياته على السلم والأمن الدوليين، إذ عمدت بعض الدول الأوربية إلى فرض حظر سفر على ثمانية عشر سعوديا يشتبه في تورطهم في الحادث.
هذا التطورات دفعت البعض إلى القول إن القضية وصلت إلى محطتها الأخيرة، وإن دماء خاشقجي أهدرت تحت وطأة المصالح المادية. وصارت الأنظار تتطلع إلى تركيا وإلى كلمتها الأخيرة، والسؤال الذي يشغل كثيرين هل أفلت ملف القضية من يد تركيا؟!!

هل يلتقي أردوغان بابن سلمان؟

نظر البعض إلى الإعلان عن لقاء “محتمل” بين أردوغان ومحمد بن سلمان على هامش قمة العشرين في الأرجنتين نهاية الشهر الجاري، على أنه دليل “دامغ” على طي تركيا ملف القضية، وأنها باتت تتطلع إلى تحصيل أكبر قدر من المكاسب المادية.
والحقيقة أن ثمة شكوكا قوية مازالت تحيط بذلك اللقاء، فالبداية كانت من إجابة للمتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، عن مدى إمكانية لقاء أردوغان بابن سلمان على هامش قمة الأرجنتين فأجاب بأنه ليس هناك ما يمنع ذلك، لكنه وفي اليوم ذاته وبعد ذلك التصريح بساعات نشرت قناة ” A Haber” التركية تصريحا نسبته إلى أردوغان نفسه ينفي فيه لقاء مرتقبا مع ابن سلمان، في اليوم التالي وأثناء استضافته على تلفزيون “سي إن إن ترك” أعاد وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، تأكيد ما قاله كالن بأنه لا يوجد ما يمنع من لقاء أردوغان وابن سلمان لكنه أضاف نقطتين الأولى: تقديم السعودية طلبا يفيد تلك الرغبة والثانية: أن الأمر في النهاية سيعود إلى أردوغان نفسه.
إذن ولي العهد السعودي سيكون أمام مخاطرة لا يعرف نتيجتها حال تقدمه بطلب للقاء أردوغان وتم رفضه بحجة عدم وجود وقت أمام الرئيس التركي لعقد مثل ذلك اللقاء.
وحتى كتابة هذه الأسطر مازال مصير ذلك اللقاء معلقاً، لكن حتى لو تم فقد يكون لزاما على ابن سلمان أن يسمع حينها من أردوغان ما لا يحب سماعه، خاصة وأن الأخير لا يحمل ودا ولا تقديرا للأمير “الشاب” الذي تحرك وراء محمد بن زايد للإضرار بالمصالح العليا لتركيا وعلى رأسها محاولة الانقلاب الفاشل في يوليو/تموز ٢٠١٦.

تركيا تعري أطرافا عدة وتفضحهم

رغم أن كثيرين كانوا يأملون أن تنتهي القضية بالإطاحة بابن سلمان لعلها تكون بداية لانفراط عقد الثورة المضادة في المنطقة، ومن هؤلاء دونما شك تركيا نفسها، وبما أن ذلك لم يتحقق حتى الآن اعتبروا أن تركيا فشلت في إدارة ملف الأزمة، لكني أزعم أن الإدارة الاحترافية للأزمة مكنت تركيا من تحقيق عدد من النقاط المهمة سواء على مستوى ملف القضية الجنائي، أو على مستوى صراعها مع معسكر الثورة المضادة على النحو التالي:
أولاً: أرغمت تركيا السعودية على الاعتراف بمقتل خاشقجي داخل مبنى القنصلية بإسطنبول ما وفر على أنقرة وقتا طويلا خاصة وأن التخطيط المسبق كان يهدف إلى إلصاق التهمة بتركيا من خلال الترويج لأكذوبة خروج خاشقجي من المبنى ودعمها بصور لشبيهٍ ارتدى ملابس الفقيد وخرج من الباب الخلفي لكن تركيا استبقت الرواية “الجاهزة” بنشر صور الشبيه والأماكن التي ذهب إليها عقب الخروج من مبنى القنصلية حتى رجوعه إلى الفندق. هذا الاعتراف السعودي وإن حاول تبرئة الجهات الرسمية بروايات متعددة إلا أنه أثبت للعالم كله أننا أمام دولة مارست القتل بوحشية أثبتتها النيابة العامة السعودية في بيانها الرسمي الذي أكدت فيه أن خاشقجي تم “تجزئته”، واستغلت في سبيل تحقيق ذلك الحصانة الدبلوماسية الممنوحة لمبنى القنصلية.
أزمة السعودية تتصاعد بشكل كبير أفقدها الصورة التي رسمتها لنفسها على مدار عقود باعتبارها قائدة للعالم الإسلامي، حتى أنها التزمت الصمت عقب تأكيد ترامب على دورها الداعم للوجود الصهيوني ولم تنفِ الأمر، ما يعني أنه سيكون لزاما علينا إعادة تقييم للمواقف السعودية في ملف الصراع مع إسرائيل
ثانيا: عرت تركيا محمد بن سلمان من ورقة التوت التي يتستر بها، من خلال تقديم نفسه للرأي العام العالمي على أنه مصلح يقود مشروعا تنويريا يهدف للتصدي لقوى الظلام الرجعية!!! 
فرغم أن تركيا “الرسمية” حرصت على عدم اتهامه صراحة بالمسؤولية عن الجريمة إلا أن إلحاح أردوغان على أن الجريمة وقعت بأوامر من أعلى سلطة في السعودية، وتأكيده نفي التهمة عن الملك سلمان، لم يدع مجالا للشك أنه يقصد ابن سلمان، لكن الإشارة التركية تحولت إلى اتهامات صريحة في وسائل الإعلام العالمية، ما اضطر معها وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، للقول بأن الملك سلمان وولي عهده خط أحمر، ونفي التهمة عن محمد بن سلمان. لكن تصريحات الجبير لم تغن شيئا عن ولي العهد الذي يواجه أزمة حقيقية داخلية وخارجية باتت تهدد مستقبله كملك قادم للبلاد، وليس أدل على ذلك من حالة الرفض الشعبي التي قوبل بها في زياراته الخارجية التي استبق بها مشاركته في قمة العشرين في الأرجنتين، إضافة التي التحركات داخل آل سعود لعزله، في محاولة للخروج من الأزمة التي باتت تهدد استمرارهم كأسرة حاكمة للسعودية.
ثالثاً: فضحت تركيا انتهازية الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترامب، وعرتها من جميع المبادئ التي ظلت تتستر بها كغطاء أخلاقي لزعامتها العالم، وتمكنت من إلقاء الملف في الملعب الأمريكي، ليتحول إلى ما يشبه كرة نار، تزامنا مع صعود الديمقراطيين في مجلس النواب، واستنفار الصحافة الأمريكية وفي مقدمتها صحيفة “واشنطن بوست”، لم يكن تقدير تركيا للموقف الرسمي الأمريكي ينتظر أكثر مما قدمه ترامب، لكنها أرادت أن يشاهده العالم كله بالصوت والصورة، فترمب بدا صريحا واضحا دون رتوش وهو يبيع المبادئ والقيم من أجل المال (صفقات السلاح) وإسرائيل ومصالحه الشخصية إضافة إلى مصالح صهره جاريد كوشنر.
الأزمة الداخلية الأمريكية لم تنته ببيان ترامب ولا بتبريراته، فالديمقراطيون يعدون العدة لمساءلته حول علاقته بالسعودية، كما أن قادة جهاز الاستخبارات سيكونون كذلك على موعد مع جلسات مساءلة ومحاسبة حول نتائج تقريرهم النهائي بخصوص الجريمة الذي تعرض للتشكيك والنفي علنا من قبل الرئيس الأمريكي في سابقة غير معهودة في الولايات المتحدة.
رابعاً: كشفت تركيا زيف الضجيج الأوربي ووصفت رد فعل القارة العجوز بـ”الشكلي” كما جاء على لسان الوزير مولود تشاووش أوغلو، فمعظم العقوبات الأوربية تركزت على حظر سفر ثمانية عشر سعوديا يشتبه في تورطهم في الجريمة، وهي عقوبة تليق بمن لم يلتزم بمواعيد التأشيرة له، لا بمن يقترف تلك الأفعال داخل مبنى دبلوماسي وبتوجيهات لا تخطؤها العين من أكبر مسؤول في الرياض.
كل ذلك تحقق ومازالت تركيا “الرسمية” لم تقل كلمتها إلا ببيان وحيد صادر عن مدعي عام إسطنبول، لذا فالجميع مازال ينتظر القرار النهائي للادعاء التركي.
وهل ستلجأ تركيا إلى طلب تحقيق دولي حسبما لوحت بذلك أكثر من مرة؟
من هنا فإن القضية التي أدارتها تركيا منذ البداية باحترافية وشهد بها الجميع مازالت تمسك في يديها خيوطها ولم تفلت منها حتى الآن. 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه