هذه ديمقراطية تركيا فكيف حالكم؟

 

بينما عاشت تركيا- ولا تزال – عرسا ديمقراطيا جديدا يحتفل فيه الجميع بنتائج الانتخابات المحلية التي أرضت معظم الأحزاب، إذ بنفر من بني العُرب -الذين يسمعون فقط عن الديمقراطية، ولا يمارسونها-  لوصف ما حدث في الانتخابات بالهزائم الثقيلة التي لحقت الرئيس أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”، ووصل الحال بأحد من يتسربلون برداء علم السياسة للتأكيد أن ما حدث هو هزيمة رباعية وليست واحدة فقط لأردوغان وحزبه ومشروعه وحلفائه.

أعلى نسبة في العالم

نتحدث عن انتخابات محلية (ليست رئاسية أو برلمانية) ومع ذلك بلغت نسبة المشاركة فيها 84% وهي اعلى نسبة في العالم (في الدول الديمقراطية طبعا وليس دول الـ 99.99%).

نتحدث عن مشاركة طيف واسع من الأحزاب القوية التي مارست حقها في تشكيل تحالفات بهدف تحقيق أكبر مكاسب.

نتحدث عن لجنة مستقلة حقا للانتخابات لا يؤثر عليها رئيس أو وزير.

نتحدث عن إعلام متنوع، ومراكز استطلاعات رأي عام جادة، ومساواة كاملة في فرص الدعاية والتسويق للمرشحين، و”كل واحد وشطارته وقدراته”.

نتحدث عن رئيس يوصف حينا بالسلطان وحينا بالديكتاتور ومع ذلك يجوب البلاد طولا وعرضا للتسويق لحزبه شأنه في ذلك شأن غيره من رؤساء الأحزاب.

 نتحدث عن جهاز أمني محايد مهمته فقط حماية العملية الانتخابية وأمن البلاد، وتنفيذ القانون دون انحياز لفريق على حساب فريق.

نتحدث عن جيش مهني يقوم بمهامه في حماية وطنه، وملاحقة التهديدات التي يتعرض لها على الحدود، وهو الجيش الذي نجح في الحفاظ على موقعه ضمن أقوى 10 جيوش في العالم (خرج الجيش المصري للأسف من هذه القائمة وما كنا نتمنى ذلك).

نتحدث عن أعلى نسب مشاركة للناخبين الأتراك في الانتخابات العامة، ففي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يونيو الماضي بلغت نسبة المشاركة 88% وهي نسبة لم تصل إليها أعرق الديمقراطيات الغربية (بلغت النسبة في انتخابات الرئاسة الفرنسية مايو/آيار 2017، التي فاز فيها  إيمانويل ماكرون 74.56%، وفي آخر انتخابات برلمانية ألمانية فاز فيها حزب ميركل بلغت النسبة 75%، وفي روسيا، بلغت النسبة في آخر انتخابات رئاسية فاز بها بوتين  67%، وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، وأسفرت عن فوز مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترمب، بلغت نسبة المشاركة نحو 55.6 %).

بلدية إسطنبول

وحتى ما اعترى نتيجة بلدية إسطنبول الكبرى من مشاكل، والطعن عليها من قبل مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم بن علي يلدريم هو جزء من العملية الديمقراطية التي ينظم القانون طعونها، صحيح أن الطعن بالتزوير هو أمر جديد على الساحة التركية، لكن قوة القانون كفيلة بكشف أي انحراف، وإعطاء كل ذي حق حقه دون مجاملة أو تهاون، فالشعب يقظ، والأحزاب السياسية متنمرة، والإعلام حاضر بقوة.

نتيجة الانتخابات المحلية الأخيرة والتي منحت أكثرية للحزب الحاكم، كما سمحت للمعارضة بتحسين نتائجها، وتطوير أدائها، هي إكسير جديد للحياة السياسة والديمقراطية في تركيا، وهي في الوقت ذاته “قرصة إذن” للحزب الحاكم ليعيد تجديد دمائه، ويراجع سياساته ومواقفه، وأدوار رموزه وكوادره خاصة أولئك الذين تطالهم إتهامات شعبية.

هيمنة حزب واحد على الحياة السياسية لفترة طويلة حتى لو كان بإرادة شعبية يصيب الحياة السياسية بالرتابة والملل، ويصيب الساسة وقطاعات واسعة من الشعب بالإحباط، ويتسبب بالتالي في عزوف الكثيرين عن المشاركة، وهو ما يضر بالعملية الديمقراطية، وبالتالي فرغم خسارة حزب العدالة والتنمية لبعض البلديات الكبرى لصالح المعارضة إلا أن ذلك يعد في الحقيقة كسبا استراتيجيا للتجربة الديمقراطية التركية ذاتها، وهو ما أشاد به نشطاء وساسة غير أتراك معارضون لأردوغان بل لعموم التيار الإسلامي.

النضج السياسي

لم يصل الأتراك إلى هذا النضج الديمقراطي بين عشية وضحاها، بل قضوا عقودا في النضال ضد الانقلابات العسكرية التي حكمت تركيا بدءا من إنقلاب مايو 1960 الذي أعدم رئيس الوزراء عدنان مندريس( الذي أعاد له أردوغان إعتباره وأطلق اسمه على منشآت حكومية)، ثم الانقلاب على الرئيس سليمان ديميريل عام 1971، وانقلاب الجنرال كنعان إيفرين في العام 1980، الذي أصدر دستورا يشرعن التدخل العسكري في الحياة السياسية، ثم الانقلاب الأبيض ضد نجم الدين أربكان عام  1997، وحظر حزب الرفاة 1982، وإيداع أربكان السجن مع مجموعة من قادة حزبه “منهم رجب طيب أردوغان” وحرمان بعضهم من العمل السياسي لمدة “5-10 سنوات”، وعقب الانقلاب العسكري في مصر صيف 2013 تعرضت تركيا لمحاولة انقلاب فاشلة كان مظهرها المدني أحداث حديقة جيزي، وكانت آخر محاولة انقلابية فاشلة تلك التي وقعت في 15 يوليو 2016.

خلال العقد الأخير تحديدا تمكن حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان من ضبط العلاقة المدنية العسكرية، وأوقف تدخل المؤسسة العسكرية في العمل السياسي لتتفرغ لمهامها الطبيعية في حماية الحدود والثغور والأمن القومي، وأصبحت الحياة السياسية أكثر استقرارا، وأكثر تنوعا، وأكثر مشاركة شعبية، في الوقت نفسه أصبح الجيش التركي واحدا من أقوى عشرة جيوش عالميا.

حين دعا أردوغان للاستفتاء على دستور جديد لتحويل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي بهدف تحقيق استقرار سياسي تحتاجه تركيا لمواجهة العديد من التحديات خصوصا الخارجية والأمنية، وصفه مناوئوه في الداخل والخارج بالديكتاتور، لكن هذا “الديكتاتور!” هو الذي أجرى الانتخابات البلدية الأخيرة، وأعلن قبوله لنتائجها، واحترامه لإرادة الناخبين، وفي ظل هذا “الديكتاتور!” ازدهرت المعارضة، وعظمت مكاسبها الانتخابية.

من أعظم التجارب

تجربة المحليات في تركيا واحدة من أعظم التجارب الإدارية التي تصلح نموذجا لبلداننا العربية وخصوصا مصر، حيث تتمتع هذه البلديات بسلطات وصلاحيات واسعة تمكنها من تحقيق طفرات تنموية في محيط اختصاصها، وهي لا تقتصر على الخدمات المحلية التقليدية بل تتعداها إلى تحسين الجوانب الاجتماعية في حياة المواطنين، والسعي لسد احتياجاتهم المعيشية، مثل إنشاء المساكن وتيسير وتسيير الصحة والتعليم ووضع منظومة لحماية البيئة، ومساعدة العاطلين عن العمل والأيتام، وتأسيس مؤسسات تحقق التكافل بين المواطنين وتقدم الخدمات المجتمعية، ووضع بنية تحتية للأنشطة الثقافية والاجتماعية، وتقوية أواصر الصداقة والأخوة بين فصائل الشعب، والذين يقيمون في تركيا من العرب يدركون الفوارق بين البلديات التركية والبلديات في أوطانهم، ولعلهم ينقلون هذه التجربة إلى بلدانهم عند عودتهم إليها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه