هدف صلاح الكبير

 

(1)

“إنه ليوم حزين.. مُفرحٌ جداً”… مصر تخرج رسمياً من كأس العالم، لكن المفرح أن محمد صلاح شارك لأول مرة بعد الإصابة وأحرز هدفاً في المرمى الروسي، لم ينهزم النجم تماماً وهذا يكفي لبعض الفرح، ولم ينتصر الفريق بأي حال وهذا يكفي لكثير من الحزن، كما يكفي لدوران الاسئلة بين الغاضبين: من أين يبدأ النصر؟، ومتى تنتهي الهزيمة؟، وهل يمكن لفرد أن ينتصر لأمة، إذا ظلت حدود رؤيته داخل مستطيل محدود، ولم تمتد لتشمل خريطة الوطن المبعثرة؟

الأسئلة صعبة وخلافية، لكنها واجبة ولا مفر منها، لا سيما وأن لها سوابق تدعمها في تاريخ السياسة وفي تاريخ كرة القدم أيضاً

(2)

“إنه ليوم حزين.. مُفرحٌ جداً”… كانت الجماهير تبكي وهي تحتفل بالفوز، تهتف داخل الملعب الكبير بمشاعر مختلطة وهي ترفع قبضة اليد اليسرى عالية في السماء، بالطريقة ذاتها التي كان يحتفل بها قائد الفريق الراحل وفيلسوفه المنتمي “سقراط برازيليرو دي أوليفيرا”.. اللاعب البرازيلي الذي استخدم كرة القدم لنشر الديموقراطية ومواجهة الديكتاتورية العسكرية بمهارات فنية ناعمة، ربما يشترك صلاح مع سقراطيس في اللحية والأخلاق، لكنني أطمح إلى تشابهات أكثر في الوعي الوطني العام (ولا أقول السياسي) وكذلك في اتساع مفهوم الانتماء للشعب البسيط، بحيث لا تصبح السلطة هي بوابة مرور صلاح إلى الناس، بل يصبح الناس هم الأساس.

(3)

بعد أن تحول صلاح إلى “قوة مؤثرة” خارج الملاعب الرياضية، سعت السلطة بكل فصائلها لاستنزافه والاستفادة من محبة الجماهير له، فتحول اللاعب إلى “لعبة” ما أدى إلى ارتباكات وتوترات كثيرة في مسيرة صلاح أثرت على تركيزه ومستوى أدائه في المباريات، وسرعان ما اكتملت الكوارث بالإصابة الدرامية قبل موقعتين مهمتين في تاريخ صلاح الكوري: نهائي كأس أوربا، ومباريات مصر في كاس العالم، لكن “الأيام الحزينة” لا تخلو عادة من فرحٍ كامن، فقد خففت الإصابة من خسارة اللاعب، على الرغم من خسارة ليفربول وخسارة مصر، وهنا يحضر “درس سقراط” الذي لم يفز مع البرازيل بكأس العالم، على الرغم من أنه كان واحداً من لاعبي “الفريق الذهبي” ضمن تشكيلة من المواهب الفذة لم تتكرر في تاريخ البرازيل، لكن سقراط لم يشعر بمرارة من الهزيمة، وأطلق مقولته الرائعة: “أنا لا ألعب من أجل المال ولا الانتصارات الرخيصة، أحب أن أحرز أهدافي من أجل وطنٍ أفضل”، وهذا يعني أن الانتصار في الحياة والانتصار للوطن يأتي قبل الانتصار في كرة القدم، هكذا يكون للهدف معنى أسمى وأبقى.

(4)

صلاح أكمل منذ أيام عامه السادس والعشرين، ولم يبق أمامه في الملاعب إلا سنوات قليلة، أتمنى له فيها التوفيق والنجاح فيها والقدرة على إسعاد الجماهير، وأظنه يعرف أن حياة اللاعب لا تنتهي مع الاعتزال، لأن اللاعب في البدء والمنتهى “إنسان” لن يعيش “لاعبا” طول العمر، لذلك فكر صلاح في اعتزال اللعب دولياً لتجنب المشاكل والارتباكات، والعمل على حماية نفسه من “الاستغلال” الذي تضرر منه كثيراً في الأشهر الأخيرة.. فقد تضرر على المستويات العائلية والمالية والرياضية والإعلامية، ثم جاءت الضربة المؤثرة التي زجت به في مستنقع السياسة، ما أغضب جماهير ليفربول وجماهير بريطانيا كلها التي تعيش فترة صراع إعلامي ضد روسيا، وبالتالي ضد كل حلفاء بوتين ومنهم الرئيس الشيشاني الذي استخدم صلاح للترويج لنفسه، بتواطؤ مع اتحاد الكرة المصري، وبتصريح من ذئاب السياسة الذين يتاجرون بكل شيء من أجل زيادة أنصبتهم في العمولات السرية.

(5)

ربما لا يجيد صلاح “فن المسافات”، وربما لم يتدرب جيداً على التعامل مع الانتهازيين النافذين في ماكينات صنع القرار، وربما لا يرغب في أن يخذل أحداً يقصده، لكن الشهرة مسؤولية لها أعباء، ولها حسابات دقيقة عليه أن يتعلمها، وإذا كان “درس سقراط” صعباً وله ظروفه التاريخية والجغرافية، وإذا كان “درس أبو تريكة” موجعاً ويدعو للتأني في اتخاذ أي خطوة لمخالفة ذئاب السلطة، فإن هناك “درس دروجبا”.. اللاعب الإيفواري الذي كسر صلاح رقمه القياسي بالتهديف في الدوري الانجليزي، فقد عانى دروجبا الكثير من المشاكل في الملاعب وخارجها، لكنه تمكن من تجاوز ذلك كله، وبالرغم من إقامته في الخارج منذ طفولته، وعودته إلى بلاده على فترات متقطعة، وبالرغم من ظروفه العائلية الصعبة، إلا أنه كان قوياً وتمكن من إحراز هدف فريقه ليحصلان معاً على كأس دوري الأبطال في أوربا، وفي الوقت نفسه لم ينس دروجبا بلده، وسعى لاستثمار مكانته الدولية وشهرته الجماهيرية في دعم السلم والديموقراطية في بلاده، فعندما تأهلت بلاده لكأس العالم في العام 2006 أصدر التصريحات والبيانات التي تطالب المتصارعين على السلطة بالتوقف عن الاقتتال، وكان البعض يقلل من تصريحات يائسة للاعب كرة يطالب فيها المتحاربين بإلقاء السلاح، لكن الدعوات الصحيحة لا تضيع إذا خرجت من قلوب مخلصة وأسماء محبوبة مؤثرة، فقد أثمرت دعوات المصالحة مع الوقت، وفي خريف 2011 تشكلت “لجنة الحقيقة والمصالحة” للحد من العنف الأهلي المتبادل في ساحل العاج، وكان ديديه دروجبا أحد أعضاء اللجنة البارزين، وظلت مساعداته لبلده تتسع كسفير نوايا حسنة للأمم المتحدة، وناشط في مجال الحقوق الأفريقية ومكافحة الأمراض المتوطنة

(6)

في تقديري أن صلاح لا يقل وطنية وإنسانية عن دروجبا (إذا انتبه ورغب)، فالعمل الوطني ليس فقط التبرع للفقراء بالملابس والطعام، وليس فقط تطوير قرية فقيرة فهذا أشبه باللعب في مراكز الشباب والانتصار لفريق “نجريج”، صلاح يستحق أن يلعب مباريات أكبر وأهم، وأظنه يعرف أن الوطنية ليست إرضاء رئيس أو وزير أو مجاملة اتحاد رياضي، الوطنية تعني أن يكون لدينا وطن حر متماسك ناهض نفخر به.. فلا كرامة ولا نصر لمواطن في وطن أسير ممزق مهزوم، لا بد من بناء الفريق، لابد من نبذ الخلافات، لا بد من المصالحة على اساس الدستور والمساواة في الوطن، ولدي أمل كبير ان يخرج صلاح من دوامة المشاكل التي دفعوه إليها، ليتمكن من المساعدة في إحراز هذا الهدف الكبير

حينها سيكون اليوم سعيدًا.. مُفرِحًا جداً

فلا تتأخر عن بلدك وناسك يا صلاح

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه