نكسة الغاز في غياب الفارس

 

بدأت مصر استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل في يوم الأربعاء 15 من يناير/كانون الثاني الماضي، وبموجب المعلن من الصفقة تقوم شركتا ديليك الإسرائيلية ونوبل إنيرجي الأمريكية، المشغلتان لحقلي الغاز الطبيعي لوثيان وتمار، بتصدير نحو 85 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 20 مليار دولار على مدى 15 سنة إلى شركة دولفينوس المصرية الخاصة لتتم إسالته في محطات إسالة الغاز المصرية في مدينتي دمياط وإدكو على سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالي مصر.

على المستوى الشعبي، قوبلت الصفقة باستياء قطاع عريض من الشعب المصري يرفض التعامل مع اسرائيل ويراها كيانًا غاصبًا وعدوًا تاريخيًا. وعبر هذا القطاع عن موقفه بوضوح بعد ثورة يناير باقتحام المتظاهرين السفارة الإسرائيلية بالقاهرة عدة مرات وغلقها، وبرفض اتفاقية تصدير الغاز المصري إلى اسرائيل والتي أبرمها في عهد مبارك رجل الأعمال الراحل حسين سالم.

وعلى مستوى الحكومة، اعتبر الجنرال عبد الفتاح السيسي الصفقة إنجازا يحسب له، وقال عند تناوله للصفقه في فبراير/شباط 2018، إنه “جاب جون” أي أحرز هدفا كبيرا بإنجاز الصفقة، وإنها تحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، وإنه كان يحلم بهذا الإنجاز منذ أربع سنوات، وهو التاريخ الذي تولى فيه حكم مصر رسميًا.

في المقابل، وفي إسرائيل حيث الشفافية والمساءلة، كان وقع الصفقة مختلفا تمامًا عنه في مصر، فقد قوبلت الصفقة بالتهليل، واعتبرتها حكومة الكيان إنجازا غير مسبوق، ووصف رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الاتفاقية بالتاريخية، واعتبر يوم إبرام الصفقة عيدًا لإسرائيل، وكشف عن أن نصف عائدات الصفقة سيدخل في صورة ضرائب إلى الخزانة الإسرائيلية، ما يعني أن عشرة مليارات دولار سوف تصرف لاحقا على التعليم والخدمات الصحية والرفاهية للمواطنين الإسرائيليين، وفق تعبير نتنياهو. وقال وزير الطاقة إنه يوم يستحق أن يكون عطلة رسمية لبلده.

تداعيات الصفقة

عكس ما أنجزه نتنياهو لبلده، لم يكشف السيسي عن أي عائدات يمكن أن تعود على الاقتصاد المصري نظير استخدام البنية التحتية لشبكة الغاز القومية وأنابيب نقل الغاز ومصانع الإسالة المصرية، ولم يَعد بدولار واحد سيدخل الخزينة المصرية من الصفقة، ولم يكشف عن أسعار الاستيراد، ولم يتطرق إلى سلبيات الصفقة وتداعياتها على الاقتصاد المصري والقرار السياسي والأمن القومي.

الصفقة طرحت لغزًا كبيرًا أيضًا حول إصرار السيسي على استيراد الغاز من إسرائيل رغم إعلان الحكومة الاكتفاء الذاتي من الغاز المسال منذ نهاية 2018، وعن اكتشاف حقل ظهر الذي يحتوي احتياطيات تريليونية من الغاز الطبيعي، بل واعلانها عن التحول إلى التصدير بكميات اقتصادية وصلت إلى 45 شحنة خلال سنة 2019.

وبطريقة ساخرة اعترف السيسي باللغز الذي حير المصريين، وتساءل مثلهم: “إزاي أنت بتقول حقل ظهر.. وحققنا الاكتفاء الذاتي.. وفي نفس الوقت أنتم هتجيبوا غاز من حتة تانية؟” ثم يرد على نفسه بلغز آخر فيقول: “ما احنا لو هنجيب من حتة تانية هنجيب طبقًا لآليات السوق.. يا رب توصلكم القصة دية، يعني هنشتري بكام؟ إنتوا عارفين احنا بنشتري إزاي حاجتنا؟”  وتساءل: “عارفين؟ هه!.. لأ.. احنا جبنا جون يا مصريين في الموضوع ده!” ويهز رأسه بسخرية وينظر إلى رئيس الوزراء الذي يجلس إلى يمينه ويسأله: “مش كده ولا إيه؟” والأخير لا يملك إلا أن يبتسم ويهز رأسه بالموافقة.

ونتيجة لتأثير الصفقة على قطاع الغاز المصري المحلي، خفضت الشركة القابضة للغازات الطبيعية “إيغاس” المصرية المملوكة للدولة إنتاج حقل ظهر من الغاز إلى نحو 2.4 مليار قدم مكعب من الغاز يوميا، والذي كان يصل إلى 3 مليارات قدم مكعب، وذلك بسبب ارتفاع ضغوط الشبكة القومية للغازات، وفق تصريح مسؤول في الشركة لصحيفة البورصة المصرية، ما يعني أن الحكومة أعطت الأولوية للغاز المستورد من إسرائيل على حساب المنتج الوطني، وهو ما أعلنت عنه الحكومة الإسرائيلية والتي قالت إن مصر سوف تستهلك جزءا من الغاز محليًا، وليتضرر الاقتصاد المصري، وليربح الإسرائيلي.

على خطى مبارك

بمباركة المخلوع مبارك، وبتفويض من مجلس الوزراء، أصدر وزير البترول في سنة 2004، قرارًا يسمح لرجل الأعمال الراحل حسين سالم، صاحب شركتي الشرق والبحر المتوسط للغاز، بعقد صفقة لتصدير الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل. وبموجب الصفقة تلتزم الحكومة المصرية بضخ 1.7 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز المسال إلى الكيان الصهيوني ولمدة 15 عاما، ، وبسعر يتراوح بين 70 سنتاً و1.25 دولار للمليون وحدة حرارية.

كانت تكلفة استخراج ونقل الغاز تصل إلى 2.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية، وكانت أسعار الغاز في أوربا في هذا التوقيت تدور حول 11 دولارا. وأصدر وزير البترول قرارًا آخرًا برفع أسعار البنزين والسولار ليتحمل المواطن المصري الفقير تكاليف وخسائر الصفقة، ما يعني أن الصفقة مثال لأغرب صفقات النهب المنظم للموارد الطبيعية المصرية والتي تتم بمباركة رئيس الدولة الذي أقسم على رعاية مصالح الشعب، وبالتواطؤ مع إدارة جهاز المخابرات العامة المنوط بمواجهة الأخطار التي تهدد الأمن القومي المصري.

تصدى للصفقة المناضل الوطني وفارس الدبلوماسية المصرية، السفير إبراهيم يسري، وقاد حملة شعبية كبيرة ضد الصفقة تحت شعار “لا لنكسة الغاز” وأقام دعوى أمام محكمة القضاء الإداري لوقفها ولإلغاء قرار رفع أسعار البنزين والسولار، وحصل بالفعل على حكم من محكمة القضاء الإداري ببطلان تصدير الغاز لإسرائيل ووقف الصفقة.

وأبطل القاضي، وهو المستشار محمد أحمد عطية، قرار الحكومة بتصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل لأنه تم من دون الرجوع إلى مجلس الشعب. واعتبره قرارًا إداريًا يمكن التقاضي بشأنه، وليس من أعمال الحكم والسيادة التي يمنع القضاء من نظرها كما ادعت الحكومة. واعتبر الصفقة استنزافًا لموارد مصر الطبيعية التي تلتزم الدولة بتنميتها والحفاظ عليها بنص المادة 123 من الدستور والتي تنص على “يحدد القانون القواعد والاجراءات الخاصة بمنح الالتزامات المتعلقة باستغلال موارد الثروة الطبيعية”. وقال في حيثيات حكمه: “أن الدستور حرص على حماية موارد الثروة الطبيعية للبلاد باعتبارها موردا مهما من موارد الدولة ليست ملكا للاجيال الحالية فحسب بل يشترك فى ملكيتها الأجيال المستقبلية”.

والمستشار عطية معروف بأحكامه الوطنية الفارقة في أواخر حكم المخلوع مبارك، والتي قضى فيها بإلغاء الحرس الجامعى ومنع تواجده داخل حرم الجامعة، وكذلك الحكم بالسماح للقوافل الإغاثية بالدخول إلى قطاع غزة عبر منفذ رفح البري. صحيح أن الحكومة التفت على حكم بطلان صفقة تصدير الغاز لإسرائيل وأوقفته واستمرت في التصدير، ولكن الحكم كان له أثر كبير في إثبات فساد مبارك والنيل من هيبته والتجرؤ على نظام حكمه قبل ثورة يناير، كما كان له دور كبير في وقف التصدير تمامًا بعد ثورة يناير، وتقلد عطية منصب وزير مجلسي الشعب والشورى وتنمية الإدارة المحلية بعد الثورة المباركة.

وقال القاضي في حيثيات الحكم إن: “ما نطقت به الأوراق من سرعة متناهية وتعاصر مريب فى إنشاء الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (شركة قطاع عام) وإنشاء شركة شرق البحر الأبيض المتوسط وهى شركة مساهمة قطاع خاص وتعديل نشاط الشركة الأخيرة والغرض منها ثم منحها -فور ذلك- دون غيرها عقد امتياز واحتكار شراء الغاز الطبيعى المصرى الذى يتم تصديره إلى إسرائيل، الأمر الذى يثير التساؤل عن أسباب ذلك التزامن العجيب وعن السرية والتكتم الشديد الذى فرضته جهة الإدارة حول صفقة بيع الغاز المصرى لإسرائيل وحجب تفاصيلها عن الشعب ونوابه وذلك ما يتعارض مع الشفافية التى بات أمرها مستقرا فى ضمير الأمة والعالم المتحضر، كما أنه يخل بالثقة الواجب توافرها فى تعاملات جهة الإدارة”، وكلها اعتبارات يصلح الاحتكام إليها في إبطال صفقة استيراد الغاز من إسرائيل للتشابه الكبير بين ملابسات الصفقتين.

في غياب الفارس

شبه السفير إبراهيم يسري صفقة تصدير إسرائيل الغاز لمصر باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية استنادا إلى وعد بلفور المشؤوم وبيعها مرة ثانية للفلسطينين أو طردهم منها. وأقام دعوى ضد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الاقتصادية التي وقعتها مصر مع قبرص عام 2003، وقال إن حقلي الغاز في شرق البحر المتوسط، ليڤياثان الذي أعلنت إسرائيل عن اكتشافه في 2010 وتقوم بتصدير الغاز منه إلى مصر ضمن الصفقة، وأفروديت الذي اكتشفته قبرص باحتياطيات يقدر سعرها بحوالي 200 مليار دولار، يقعان ضمن المياه الاقتصادية المصرية الخالصة.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2013، عقد الرئيس المؤقت، عدلي منصور، اتفاقية مع رئيس قبرص الجنوبية في حضور رئيس الوزراء حازم الببلاوي، ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، بشأن تنمية الخزانات الحاملة للهيدروكربون عبر تقاطع خط المنتصف، في غياب البرلمان المخول بالتصديق على هذه الاتفاقيات.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، صدق الجنرال السيسي بالموافقة على الاتفاقية، ونُشرت في الجريدة الرسمية من دون عرضها على البرلمان. ومن موقع مسؤوليته الوطنية، اعترض السفير إبراهيم يسري على إجراء السيسي، ورفع المناضل دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لوقف الاتفاقية التي أفقدت مصر نصف حقها في المياه الاقتصادية لصالح قبرص وإسرائيل، لكن المحكمة قضت بعدم الاختصاص بنظر الدعوى، وقالت إن تلك الاتفاقيات تدخل ضمن أعمال السيادة التي تخرج عن اختصاص القضاء.

طعن يسري على الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، ولا تزال القضية منظورة أمام المحكمة ولكن الفارس الذي أبطل صفقة تصدير الغاز المصري لإسرائيل بسعر بخس ترجل في يونيو/حزيران الماضي، وتبقى مصر في انتظار فارس وطني يقوم بدوره في التصدي للقضية ويمنع تبديد مواردها الاقتصادية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه