نصر أكتوبر حين يحكم العسكر

في اليوم الذي تحتفل فيه البلاد بذكري الانتصار نجد أن دولة الكيان التي حاربت كل الدول العربية مجتمعة في آن واحد ، صارت هي الأقوى منهم مجتمعين.

 

 

حتفالات تقيمها مصر منفردة في الوقت الذي كان من المفترض أن تحتفل معها سوريا والأردن وباقي الدول العربية التي شاركت معظمها بصورة ما ، بذكري انتصار أكتوبر المجيد 1973 ، في الوقت الذي تئن فيه البلاد من مشكلات مصيرية قد تؤدي بعضها لضياع أكثر من نصف مساحة البلاد ، وتهديد أهلها بالموت جوعا وعطشا تحت حكم العساكر الذين ظلوا لعشرات السنين يجرفون البلاد تحت مظلة الحرب التي لا يعلو فوق صوتها صوت ، وها هي آخر الحروب تمضي منذ ست  وأربعين سنة بينما ما زالت البلاد تئن وتتراجع لتحتل المكانة الأخيرة على كل المستويات ، لتتخطى خسارة مصر المستوى الإنساني ، فتفقد الأرض والجزر التي نحتفل اليوم بذكرى تحريرها ، والتعليم والصحة والسياحة وأخيرا النيل الذي يمثل شريان الحياة الأوحد بالبلاد

وعلى الصعيد العالمي نجد أن الدول التي بدأت نهضتها في نفس التوقيت الذي انتهت منه مصر ونفضت يدها من الحروب كما صرح الرئيس الأسبق أنور السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب ، نجدها وقد تخطت حواجز المكوث في العالم الثاني لتحتل مكانتها في مصاف الدول المتقدمة ، بل ويمثل اقتصادها الأقوى من بين دول العالم بعد أن سلمت جيوشها الحكم لحكام مدنيين وتفرغت لحماية الحدود ، وخرجت من حالة هوس التسليح والعقليات العسكرية ، والأمثلة أكثر من ذكرها هنا والاستشهاد بها وتعداد مزايا الحكم المدني والفرق بينه وبين حكم العساكر ، فالأمر تخطى المقارنات وصار واضحا للقاصي والداني ما فعله بمصر بعد آخر الحروب كما يزعمون

وفي اليوم الذي تحتفل فيه البلاد بذكرى الانتصار نجد أن دولة الكيان التي حاربت كل الدول العربية مجتمعة في آن واحد ، صارت هي الأقوى منهم مجتمعين ، ليس هذا فقط ، بل يستعين بها معظم هؤلاء الحكام لتمكينهم من رقاب الشعوب ، ويستمدوا منها مسوغ بقائهم على كراسيهم الجاثمة على صدور العباد

وبنظرة سريعة على المجتمع الإسرائيلي المحتل من الداخل مقارنة بالمجتمع المصري نجد العدالة والغنى والتعليم والصحة والبحث العلمي والنظافة والنظام والحرية هناك

والظلم والفقر والجهل والمرض والاستبداد والدنس هنا، فما الذي حدث بعد آخر الحروب وأخر الانتصارات؟ لماذا تلك الهزائم على كل المحاور بينما التقدم هناك؟ لماذا الوهن هنا والقوة هناك؟ لماذا التنازل هنا والكسب هناك؟ الأرض التي بذل فيها الآلاف دماءهم، كيف تسلم مجانا وبدون شروط؟ ما الذي حدث في تلك المعادلة غير العادلة في الوقت الذي لا يوجد ما يسمي بالجيش الإسرائيلي، وإنما كل مواطن اسرائيلي هو جندي في المعركة الأبدية، فلماذا باسم الحروب ينتهك المواطن هنا، وباسم نفس الحروب يقدس المواطن هناك.

مصر رهينة العساكر

والحقيقة المؤلمة أنه لم تخضع دولة لحكم عسكري شمولي إلا وقد خضعت لكل ويلات التخلف والتراجع عن مثيلاتها من الدول التي تخضع لحكم مدني ديمقراطي حر ، فلم نجد حاكما عسكريا رضي بمبدأ تداول السلطة ، لأنه ببساطة يجد نفسه فوق المساءلة وفوق القانون ، إن لم يعتبر نفسه هو القانون ، وهو لا يعترف بالوجهة السياسية ، ولا بشركاء سياسيين ، فنجده وقد عادى الجميع ، ورفع راية القمع والتنكيل لمن يخالفه ولو بكلمة ، حتى لو كان عسكريا مثله ، قراراته جميعها تنبني على الصدفة والفجأة والهوى والمصلحة الشخصية ، وتمكين الوصوليين والمستفيدين والغوغاء الذين لا يراعون مصلحة بلاد أو عباد ، ومنذ مطلع الخمسينيات وتعاني مصر من الوقوع رهينة لحكم هؤلاء العساكر الذين وأدوا الثورة المصرية في مهدها ، واستيقظ الشعب ذات صباح ليبشره الضباط الأحرار بنجاح الثورة العظيمة ، وإزاحة الملك ، ثم التفاوض لإجلاء الجيش الإنجليزي الذي خرج من الحرب العالمية منهكا ، فكانت خسارته اليومية في البلاد المحتلة تمثل عبئا عليه ، ففضل الانسحاب لبلاده وتفويض مصالحه لأهل الثقة من العساكر النهمون للوصول للسلطة ، ليكون الكرسي مقابل المصالح ، ويدفع الشعب الثمن باهظا في استبدال الملك بمجموعة ملوك هم مجموع الضباط الأحرار الذي قفزوا على السلطة ، وتخلصوا من الرئيس محمد نجيب الذي أراد تنفيذ الوعود العسكرية بتسليم السلطة للمدنيين ، ويحكم العسكر ، ويتحكمون في البلاد بقبضة أمنية غير مسبوقة ، ويخسرون كل المعارك التي دخلوها بجدارة ، ويدخلون البلاد في أتون الفقر بحجة الحروب التي لا تنتهي ، كل معركة فيها بخسارة أكبر من سابقتها حتى حلق الطيران الإسرائيلي في سماء القاهرة بعد تصريحات عنترية بإلقائها في البحر ، وتفقد مصر عشرات الآلاف من خيرة جنوها في حرب خاسرة سميت بالنكسة أو النكبة ، حرب أقل ما فيها أنها من طرف واحد ، بينما العسكر متماهون في السلطة لا يشغلهم الجيش أو الأرض ، ويتسلم السلطة أنور السادات بعد خسارة عدة حروب متتالية ، وينتصر العرب مجتمعون في حرب أكتوبر المجيدة ، أو علي الأرجح نصف الحرب التي تمت وتوقفت بعد الثغرة الشهيرة ، ويقع السادات الرجل العسكري في الخطيئة مرة أخري ، ويبيع النصر سريعا  بالتوقيع السياسي على اتفاقية كامب ديفيد مع الجانب الاسرائيلي برعاية أمريكية ، وتقع مصر ضحية العسكري العامل بالسياسة مرة أخري وتتكبد الكثير من تداعيات تلك الاتفاقية التي لا أحد يعرف على وجه اليقين بنودها حتى اليوم ، والتي تمت وفقها كافة الاتفاقيات الاقتصادية فيما بعد والتي كان منها التنازل عن الغاز المصري والتراب المصري وترك سيناء عارية دون حماية ، ودون إعمار ، ودون تمليك أراضيها لأهلها القاطنون عليها والذين يمثلون خط الدفاع الأول عن البلاد من الجهة الشرقية ، وقعت مصر ضحية لحكامها العساكر والذين جهلوا العمل بالاقتصاد والسياسة وأهلموا كافة جوانب النهوض عمدا في مقابل حفاظهم على كراسيهم وسلطاتهم حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير والتي انتهت بالانقلاب على أول رئيس مدني ، والقضاء على أول تجربة ديمقراطية في البلاد .

الفساد والقمع جناحا حكم الانقلاب

قبضة حديدية يدير قائد الانقلاب بها البلاد بما فيها المؤسسة العسكرية ، تحول الجيش لكيان هلامي يدعو للسخرية والرثاء بعد أن حول قادة من المفترض أنهم مسؤولون عن دولة تواجه مخططات خارجية على حد قوله إلي قادة لخط الأسماك والمزارع ومحطات التحلية ومزارع الدواجن ، وتحول المجندون خريجو الجامعات لباعة جائلين بالخضراوات واللحوم ، وتحولت الهيئة الهندسية لمقاول كبير ، ويقوم قائد الانقلاب بالتوقيع علي اتفاقية عار جديدة ، تهدد البلاد بالفناء في مقابل رفع الحظر عن التعامل مع مصر الانقلاب ، وتتداول وسائل الإعلام المصرية صور الاحتفال الكبير ، ثم يحكم قبضته الأمنية علي البلاد فيطال الاعتقال شركاء الانقلاب من عسكريين وإعلاميين وسياسيين ، وتلك آفة حكم العساكر ، لا قواعد للحكم ، لا قوانين يستند إليها ، لا معارضة تنبه لخطوة الوضع من البداية ، لا علماء ، فهو بكل بساطة لا يعترف بالتخطيط ، أو دراسات الجدوى ويعتبرها مضيعة للوقت والجهد

ويتميز الحكم الاستبدادي في مصر بخصلتين تغرقان أي كيان مهما كانت قوته، الفساد المتمثل فيما يسمى بالهيئة الهندسية التي تتحكم بكافة المشاريع في البلاد، لينغمس الجيش في الحياة المدنية فتغلق مصالح العباد من شركات متوسطة ومصانع صغيرة وتسرح العمالة بالملايين من أصحاب العوائل

 وأما الخصلة الثانية فهي إحكام القبضة الأمنية والحكم بقوانين الدولة البوليسية وملء المعتقلات بكل من تسول له نفسه بالاعتراض ، وتهميش دور المؤسسات النيابية ، وملاحقة الإعلاميين والصحفيين وأصحاب الرأي ، وإغلاق القنوات والصحف وحجب المواقع الإلكترونية ، والتحكم في المواد المقدمة في الوسائل المسموح لها ببث كل ما يزيف الواقع ويتلاعب بوعي المتابعين ، ويمتد التضييق الأمني حتى تقوم الداخلية بتفتيش هواتف المواطنين في الشوارع في سابقة لم تفعلها دولة من دول العالم الثالث من قبل .

النظام الهش ودعوات الخلاص

وفي الآونة الأخيرة ظهرت دعوة الفنان والمقاول محمد علي للخلاص من رأس الانقلاب عبر وسائل سلمية ، دعوات صنعت حالة من الحراك غير المسبوق بالبلاد خاصة أنه قد شارك فيه فئات لم تشارك من قبل في رفض الوجود العسكري بعدما طال فساده الجميع ، وبعدما دفع المجتمع كله ثمن وجوده ، حراك فضح هشاشة الحكم العسكري بعد لجوئه لفئة الفنانين وسوق الناس سوقا لإعلان تأييده في فعاليات مصطنعة مكشوفة لدي الجميع ، حراك أجبر السلطة الحاكمة أن تقدم تنازلات اقتصادية هزيلة ظنا منها أنها قد تسكت البسطاء أو تهدئ من ثورتهم ، ولأن الحكم العسكري يتميز ببطء الفهم وضيق الأفق والغرور والكبر ، فإنه لم يعِ حجم الغضب المكبوت داخل العقل الجمعي المصري ، غضب أجبر الآلاف على النزول ومواجهة الأمن في الشوارع رغم معرفة الثوار بتبعة النزول للشارع في ظل رعب المؤسسة الأمنية نظرا لمتابعة العالم الحر لما يحدث في البلاد ، لقد بلغ الغضب من الشعب درجة لن يشفع للنظام فيها الاحتفالات الزائفة بانتصار اكتوبر.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه