نحو أبسمولوجيا إسلامية

إنَّ المعارك التي دارت ولا تزول تدور؛ متخذة من العقل والنقل مادة للخلاف والنزاع، معركة في غير ميدان، وزوبعة في قعر فنجان، ورعد عابر، وغيم عاقر.

 

لا أعتقد أنَّ في حياة الخلق نظريةً أكثر خطراً وأعمق أثراً في تحديد هويات الشعوب ومناهج حياتهم من تلك المسماه ب(الأبستمولجيا) أو نظرية المعرفة، تلك التي تحدد أنماط المعرفة، ومناهج البحث، وطرائق التفكير والنظر، والأنساق المنطقية التي يُتَوَصل بها إلى معرفة الحقائق وتقريرها؛ فبقدر ما تمتلك أمَّة من الأمم ناصية هذه النظرية وتَرْشد في تنظيمها وترتيبها؛ تهتدي إلى سواء السبيل في معتقداتها وتصوراتها، وفي نظم الحياة التي تحكم سيرها وتنظم حركتها.

   ولقد تباينت على مدى التاريخ الإنسانيّ وتفاوتت طرائق الناس في التفكير والنظر ومناهجهم في البحث والتأمل، لكنَّ هذا التباين والتفاوت – وإن كان في الواقع كثيراً غَصَّت به تعاريج التاريخ ومنحنياته – بقي خارج الخطّ الثابت، الذي ظل ممتداً في مسيرة الإنسان من المبدأ إلى المنتهى، يدِقُّ أحيانا ويضْمُر حتى يشارف التلاشي ويقارب الفناء، وأحياناً أخرى تراه يقوى ويستغلظ حتى تكاد الخطوط الأخرى تتلاشى من حوله وتغيب في غمرة سلطانه، فكأنَّ سيرته معها كسيرة القمر مع كواكب السماء ونجومها؛ يضمر فتلمع وتسطع، ويكمل فتنزوي وتنطوي، وهي على كل حال لا تغني غناءه ولا تسد مَسَدَّه.

الصراط المستقيم:

   هذا الخط بدأ مع نزول آدم إلى هذه الأرض: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة 38)، وظل واستمر، وسيظل ويستمر: “وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (الأنعام 153)، والذي يرسم ملامح الهدى والصراط المستقيم هو الوحي الإلهيّ؛ لذلك جاء في سورة النحل التي تحكي قصة الإنعام الإلهي على العباد؛ جاء على رأس النعم التي يعجز الخلق عن شكرها: “يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ” (النحل 2)، وحتى لا يحرم الخلق من هذه النعمة الكبرى أمروا بهذا الأمر الصارم: “اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ” (الأعراف 3).

   فالوحي الإلهي والهدي الرباني هو الذي يحدد الصراط المستقيم، ويرسم الطريق القويم، ويضع أسس المنهاج السليم، فلا غنى للإنسان عن الوحي مهما أوتيَ من عقل وعلم وفلسفة ومنطق، وهذه إحدى المسلمات في دين الإسلام، وهي مسلمة كبرى تترتب عليها جملة من الحقائق المنهجية، أولها: أنَّ العقل – وإن كان مناط التكليف ومظهر التكريم والتشريف – لا يستقل بتحديد مناهج التفكير والنظر؛ ذلك لأنَّه – وإن كان آلة التفكير والإبداع – يظل محكوماً بنواميس الخالق الذي أبدعه؛ ومن هنا قالوا: إنَّ الوحي للعقل كالشمس للعين، فالعين آلة الإبصار، لكنها بغير نور الشمس لا يتم لها الإبصار، والعقل آلة الإدراك، لكنه بغير نور الوحي لا يكمل له الإدراك.

   ثاني هذه الحقائق أنَّ العقل والوحي لا يتضادَّان ولا يتعارضان، بل لا يُتصور وقوع التضاد أو التعارض بينهما، فإن وقع في ظاهر الأمر شيء من هذا؛ فمرده إلى أحد أمرين، الأول: الاختلال في نقل الوحي أو في فهمه، الثاني: الاختلال في عمل العقل أو في نقله، أمَّا أن يتعارض المنقول الصحيح الصريح مع المعقول الصريح الصحيح، فهذا غير وارد البتة؛ لأنَّهما في الأصل يصدران من مشكاة واحدة، فالوحي وما يحويه هدى من الله، والعقل وما يهتدي إليه هبة من الله، والرحمن الذي أنزل القرآن هو الرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، “الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)” (الرحمن 1-4).

   ثالث هذه الحقائق أنَّ الوحي حاكم على كل ما أنتجه العقل مما اختلف فيه الخلق: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ” (الشورى 10)، وأنَّ الله تعالى أنزل الكتاب ليكون مهيمناً على كل المذاهب والأفكار والنحل والأديان؛ يقرّ ما فيها من الحق، ويزيف ما اشتملت عليه من الباطل، ويعدل ويصوب ويوجه ويرشد: “وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” (المائدة 48)؛ فإذا طالت هيمنته النِّحَل التي لها أصل موحى به؛ فأولى أن تطال المذاهب والمدارس التي ليس لها من الوحي نصيب؛ ومن هنا وصفت الأمة الإسلامية بالوسطية وكلفت بالشهادة: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (البقرة 243)، فهي وسط بين المتناقضات بما معها من الحق والميزان، وشهيدة على المناهج تحكم عليها بما حكم الله في كتابه: “اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ” (الشورى 17)، “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ” (البقرة 213).

وظيفة العقل

   والعقل تجاه الوحي له وظيفتان: التحقق والتنفيذ، فأمَّا الأولى فإنَّ للعقل حق – وهو في ذات الوقت واجب عليه – أن يتحقق من أن ما يُدعى إليه هو وحي من الله حقاً، وأمّا الثانية فهي التلقي والتنفيذ والتطبيق، فإذا آمن العقل بأن ما يدعى إليه وحي من الله كلف بتلقيه وفهمه وتبليغه وتدبير آليات تنفيذه، أمَّا ما وراء ذلك من أمور الدنيا فللعقل مطلق الحرية في تدبيرها على النحو الذي يراه، شريطة أن يحقق المصلحة وألا يصادم الشرع؛ وبهذا يُفهم تقديم النقل على العقل بالصورة التي لا تزري بالعقل ولا تنقص من شأنه، فالعقل يقدم النقل الذي آمن به وصدقه وقامت عنده الإدلة سابقاً على أنَّه لا يأتيه الباطل ممن بين يديه ولا من خلفه؛ وفوق ذلك فإنَّ له الحق في التفتيش في النص وفي فهمه وفي تنزيله على الواقع وفي القياس عليه وفي جمع المقاصد والحكم من معطيات النصوص للاسترشاد بها فيما يستجد من النوازل مما لم ينص عليه.

   إنَّ المعارك التي دارت ولا تزول تدور؛ متخذة من العقل والنقل مادة للخلاف والنزاع، معركة في غير ميدان، وزوبعة في قعر فنجان، ورعد عابر، وغيم عاقر، وإنَّنا لعلى موعد مع فكر إسلاميّ رشيد يستقي من منهج أهل السنة ويرتقي بكل فئات الأمّة، ولا يشتغل بهذه المعارك البائسة المفتعلة التي شغلت المسلمين دهورا وعطلت نموهم عصورا.

   ولقد وضع القرآن والسنة أسس المنهجية العلمية وملامحها العامة ومحدداتها الرئيسية، وترك للعقل مساحات بينها واسعة يصول ويجول فيها مؤطرا ومنظرا، من هذه الأسس والملامح: مبدأ التثبت، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا” (النساء 94) وقال عزَّ وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات 6)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» رواه مسلم (1/ 10)، ومنها مبدأ التخصصية، فقد ولد هذا المبدأ مبكراً حيث وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم فارقاً بارزا بين المحدث والفقيه، في قوله: “فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ” صحيح البخاري (2/ 176)، وأمر السامع (راوي الحديث) ألا يتدخل فيه بتاويل لأنَّه سيقع في يد المتخصص في الفقه: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ”، وغير ذلك من المبادئ.

نظرية مميزة

   أمَّا عن مناهج التفكير والبحث العلميّ فإنّ القرآن قد أشار سريعاً إلى أهمها، فهذه إشارة إلى المنهج التجريبيّ: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (العنكبوت 20)، “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ” (الروم 42)، وهذه إشارة للمنهج القياسي (قياس الأولى): “قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ” (يس 79)، وهذه صور للستقراء والاستدلال: “أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ” (الذاريات 35)، “قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ” (ص 86) وهكذا ..

    إننا قادرون على استلهام نظرية أبستمولوجية طاملة ومميزة من خلال النظر في الوحي بشقيه: الكتاب والسنة، ونستطيع إن أردنا أن ننطلق من هذه النظرية في إقامة حضارة إسلامية إنسانية رفيعة البناء عظيمة العطاء، وما هذا الذي قدمته إلا إشارات سريعة تحرك الشوق للبحث والنظر، والله المستعان.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه