نجومية السيدة الرئيسة

الشرف لم يكن من نصيب فرنسا وحدها عندما فازت ببطولة كأس العالم لكرة القدم 2018 التي أقيمت في روسيا. الشرف نال آخرين أبرزهم فريق كرواتيا، والسيدة كوليندا كيتاروفيتش رئيسة هذا البلد الأوربي المستقل حديثاً “1991”، هذا الفريق المكافح وصل لنهائي البطولة لأول مرة في تاريخه، فلم يكن من القوى الكروية الكبرى، لكن الإصرار على تحقيق الهدف، والتخطيط الجيد لبلوغه، قادران على تحقيق المعجزات من دون اعتبار لكون كرواتيا بلداً صغيراً في المساحة والسكان.

من يرغب في النجاح سيجد الطريق مفتوحة أمامه بلا عوائق، إلا ما يصنعه هو بنفسه من عوائق وعراقيل تمنع تقدمه، وبلا مؤامرات إلا ما يتوهمه ويروج له للتغطية على الإخفاق الناتج عن ضعف الكفاءة، وغياب الرؤية، وللإمعان في الابتزاز عبر التخويف، واختلاق أعداء غير موجودين.

والنجاح لا يتأسس على كتاب التاريخ مهما كان تليداً، ولا على خريطة الجغرافيا مهما كانت شاسعة، ففي ذهنية البعض تصورات وطنية تستند فقط على الشعارات والغناء والتعبئة في الخطاب الرسمي والإعلامي بأن التاريخ والجغرافيا وحدهما كافيان للشموخ دون أن تتحرك البلدان خطوة واحدة للأمام من أماكن وجودها وجمودها، ودون أن تحسن توظيف الطاقات والموارد البشرية والمادية المتاحة لها في وضع خطط النهوض، وأمثال هؤلاء لا استفادوا من حكمة التاريخ في استلهام دروسه لبناء الحاضر، ولا أجادوا توظيف ثراء وتنوع الجغرافيا في رسم خرائط التنمية.

لوحات الشرف

كرواتيا وبلجيكا حازتا المركزين الثاني والثالث على التوالي في المونديال متقدمتين على أباطرة اللعبة، وعلى أكثر الدول غنى في الموارد والاقتصاد، لأنهما كانتا الأفضل هذه المرة، فلم يعرقل أحدٌ طريقهما في الملاعب، ولم يتآمر الأباطرة عليهما لإقصائهما، كما أن البلدين لم يستكثرا على نفسيهما الطموح باعتبارهما صغيرين وسط بلدان كبيرة وعظيمة، وهذا تأكيد على أن من يرغب في حفر اسمه في لوحات شرف التاريخ بالجدية والإنجاز لن يمنعه شيء من تحقيق هدفه.

وبمنطق “عُقدة” التاريخ المستحكمة في عقول من يصرون على السباحة عكس تيار الحداثة والديمقراطية، ويناهضون التحرر من مواريث قديمة – وجل المنطقة العربية تعشق البقاء في هذه الحالة – فلم يكن على أمريكا مثلاً أن تصير امبراطورية عظمى تكون كلمتها نافذة في العالم اعتماداً على ذخيرة علمية وتكنولوجية وحضارية هائلة، وذخيرة عسكرية واقتصادية وتجارية ضخمة، وذلك لأن تاريخها لا يزيد على ثلاثة قرون فقط، لكنها تفوقت على أمم وبلدان عمرها ألوف السنين، التاريخ يصنعه ويكتبه من يمتلكون الحاضر، ويتفوقون فيه، ومن يخططون للمستقبل وينطلقون إليه، وهذه المعادلة تقوم على قواعد أساسية منها: الحرية، والعقل، والعلم، والعمل، أما من يجلسون على القبور يندبون حظوظهم وينادون على من بداخلها للخروج لإنقاذهم، فإن مكوثهم سيطول وشمس الزمان لا بد أن تغرب عنهم شيئاً فشيئاً.

أليس العرب من أكثر سكان الأرض تنقيباً في أوراق التاريخ، كنوع من التعويض عن العجز في صنع الحاضر اللائق، والتخطيط للمستقبل الواعد، بينما أمم أخرى لم تكن يوماً شيئاً مذكوراً حررت نفسها، وانفتحت على العالم دون “عُقد”، ودون شعارات التخدير العام، والترويج لمؤامرات الوهم العام، لذلك صارت كلمتها مسموعة ومكانتها محفوظة في العالم.

نجمة العالم

الشرف والفوز بكأس خاصة عنوانها محبة الناس كانا من نصيب رئيسة كرواتيا أيضاً، فقد صارت نجمة في العالم خلال زمن قياسي، ونجحت في أسر القلوب، فلم يكن فريقها وحده مفاجأة البطولة، كانت هي أيضاً اكتشافاً حاز الإعجاب الواسع في تشجيعها لفريق بلادها بحرارة وعفوية، وفي بساطتها وزيها الرياضي، وقدمت صورة محببة عن الرئيس الإنسان القريب من شعبه، المتلاحم معه، وهذه الصورة قربتها كذلك من شعوب العالم خاصة من يواجهون العنت والتكلف والاستعلاء المرضي من حكامهم وغياب الحميمية معهم، ولذلك لا غرابة أن يكون الاهتمام واسعاً بما فعلته مع لاعبيها في المنطقة العربية في إشارة تعكس أشواق الناس لحكام وقادة بسطاء وإنسانيين ومتفاعلين مع مواطنيهم تكون محبتهم من القلب، ولا ينافقونهم خشية من ظلم أو قهر.

رغم خسارة فريقها وبلدها حلم الفوز بالمونديال لأول مرة، فإن ابتسامة رئيسة كرواتيا الطبيعية لم تفارقها وهي تحتضن لاعبيها ولاعبي الفريق الفرنسي الخصم، نحن أمام نموذج آخر يسعى للتحرر من قيود وفتنة السلطة ويقدم دروساً لقادة يخاصمون معنى الفرح والإنسانية ويعتبرون السلطة غاية لا وسيلة ودونها الدماء، ولا يمدون جسوراً من المودة مع شعوبهم، والحاكم الخائف على نفسه من شعبه عليه أن يدرك أن المشكلة عنده، وليست عند الشعب، وأنه يفقد أهم قيمة في أركان الحكم، وهي الرضا الشعبي.

وهذا يقودنا إلى ما هو ثابت في أن الحاكم المنتخب بحرية ونزاهة هو الأقرب إلى عقل وقلب مواطنيه، لا حواجز بينه وبينهم، ولا أسواراً عالية تحجبه عنهم حيث يدرك أن وظيفته خدمة الشعب السيد، وهو لم يصل إلى منصبه الرفيع إلا بأصوات هذا الشعب لهذا لا يتعالى عليه، إنما يحتضنه كأب وأخ وابن كما شاهدنا رئيسة كرواتيا وهي تقف وسط لاعبي بلادها كأخت أو شقيقة أو أم لهم، ومثل الرئيس الفرنسي ماكرون، وهو يتفاعل مع لاعبيه خلال التتويج، وفي غرفة الملابس، وخلال تكريمهم بقصر الإليزيه، شاهدناهم يتحدثون معه، ويمزحون ويضحكون ويغنون على سجيتهم، والرئيس يكسر قواعد البروتكول الصارمة لأجلهم.

الحاكم الفرعون

العكس من هذه الصورة الودودة تجدها عند الحاكم الفرعون، والحاكم نصف الإله، والحاكم الذي يعتقد أنه مخلوق من طينة مميزة عن طينة شعبه، ماذا قدم كل واحد من أمثال هؤلاء حتى يرفعون أنفسهم إلى ما فوق البشر؟، ولعل منهم من تمنى في قرارة نفسه لو لم تظهر هذه الرئيسة وتتحمس لفريقها بهذا الشكل لأنها احتلت حيزاً من أحاديث شعوبهم في الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمجالس، وبطبيعة الحال عقد الناس المقارنات بينها، وبينهم، وغالباً كفتها كانت الأرجح.

ربما لم تخطط السيدة كوليندا لكي تأسر قلوب شعبها، أو الرأي العام العالمي، وقد يكون تشجيعها نابع من حماسة وطنية بحتة، أو أنها سعت لمزيد من التقرب إلى مواطنيها لاعتبارات داخلية تتعلق بانتخابات قادمة، أو الرغبة في انتزاع صلاحيات دستورية للرئاسة، فالمنصب أقرب للشرفية في كرواتيا، أو دفع شعبها للتجاوب مع السياسات التقشفية الرسمية لمواجهة الأزمات الاقتصادية لهذا مثلاً استقلت طائرات عادية إلى روسيا ذهاباً وعودة لتشجيع فريق بلادها كما راجت أخبار أنها باعت الطائرة الرئاسية وسيارات حكومية وخفضت راتبها ورواتب الوزراء وكبار المسؤولين، وقد يكون التشجيع في جانب منه محاولة للتخفيف من آثار شبهات فساد تربط بين اتحاد كرة القدم في بلادها وأعضاء في حزبها، وقد يكون كل ما سبق مجتمعاً، وربما هناك أشياء أخرى، فالسياسة لم تعد تنفك عن الرياضة، بل تسعى لتوظيفها والاستفادة منها، وهذا مشروع طالما يتم في سياق طبيعي وديمقراطي لإنجاز مصالح وطنية عليا، وليس لتكريس مصالح خاصة تسلطية للحاكم الفرد ونظامه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه