ناظم حكمت السجن والحرية في ذكرى ميلاده

 

الحريّة أن تبقى بعد موتك في أشجار بلادك فتصبح رئتها التي تتنفس بها هواء نقياً.

السّجن أن يلفك النّسيان قبل أن يوارى جسدك الثرى.

في السّجن قضى ناظم حكمت سنوات طويلة هي زهرة شبابه، وفي الحريّة بقي ذكره مؤبداً.

لا أريد الكتابة عن الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت بطريقة تقليدية. فمثله لا يمكن أن تختصر الكتابة عنه في مقال يروي أحداث حياته أو يتحدث عن شعره.

حين كتبت روايتي “المعراج” عام 2006 لم أكن قد قمت بزيارة تركيا، لكنّي عرفتها من خلال ما كتب عنها ومن خلال كُتّابها وأيضاً بحكم متابعة الأمور السّياسية المتعلقة بعلاقتها مع الدّولة السّورية.

كان لناظم حكمت أكبر الأثر في تخصيص فصل من الرواية تجري أحداثه في إسطنبول ويقوم بطل الرواية بزيارة مجموعة من محبي ناظم حكمت كانوا يحتفلون في السّابع من شباط “فبراير” جاء في الرواية:

(في تلك اللحظة دخلت دريّة، وهي تتجنب مواجهة يوسف، وضعت على طاولة واطئة دورقاً كبيراً مليئاً بالماء، وقد غصّ بفروع صغيرة من أشجار متنوعة، فاحت روائحها بعد ألفتِها مع المكان الدّافئ. تلك الفروع انتُزعت من أشجار ناظم حكمت المزروعة في طول البلاد وعرضها، حملت اسمه وروحه كما يعتقد هؤلاء الذين اجتمعوا ليحيوا ذكرى نضاله في يوم ميلاده، قال يوسف في نفسه” كم هو جميل أن تحمل اسمكَ شجرة، تنمو فيها، تكبر، وتتصدى للرّيح والبرد وعبث النّاس، ثمّ تموتُ واقفاً!”. غبط ناظم حكمت لأنّ أشجار بلاده تعيش على نبضه، تورق شعراً وتزهر شعراً، وتثمر شعراً! سحبته تلك الأفكار تماماً، ورمته في أرض الدّيار هناك، حيث ترتعش شجرة التّوت وحيدةً في البرد القارس! ورأى نفسه يتسلَّقُها بخفة، يمدُّ ذراعيه ليحتضنها، فتورق، وتزهر، وتطرح ثماراً يانعة، يسيل عصيرها على شفتيه، بحلاوة شفتي درية!)

التقليد المتبع في تلك الاحتفالية أن يستمع الحضور إلى أشعار ناظم حكمت المسجلة بصوته، وقيل إن مصطفى أتاتورك مؤسس الدولة التركية كان يحبّ سماع أشعار ناظم بصوته. كما كان يشاع عنه أنّه أراد تحرير فلسطين لولا انشغاله بحروب البلقان.).

بالنّسبة لبعض العرب لم يكن ناظم حكمت شاعراً تركياً بل عربياً وإن لم يكتب باللغة العربية وذلك لأنّه استلهم التّراث الإسلامي حين استعار ملحمة الشّيخ بدر الدّين بن قاضي صماونة في تصوير كفاح ثائر تركي؛ وهذا العمل هو سبب شهرته في اعتقادي.

السّجن والحرية:

(أنا مدينة إستانبول وكلّ ما حولي تلال وبحار زرق)

هذه صرخة ناظم حكمت الذي أحبّ إستانبول حدّ الهوس وحملها في قلبه أينما حلّ في منفاه، والذي جعل الكثيرين يستغلون هذا العشق باتهامه بعدم الإنصاف والإخلاص لقضيته الأساسية التي سجن من أجلها.

عاش ناظم حكمت في السّجن قرابة سبعة عشر عاماً، لكنّه لم يتوقف عن الشّعور بحريته من خلال إصراره على الكتابة فكتب في السّجن الكثير من القصائد والمسرحيات وملحمته الخالدة. في الفترة التي عاشها خارج السّجن عمل في الصّحافة وجرّب النّشر فكانت تجربة فاشلة عادت عليه بخسارة مادية فقد باع أصدقاؤه الذين اعتمد عليهم الكتاب الذي طبعه ولم يعطوه شيئاً.

كان طلاقه من زوجته أغرب وأعظم حدث في حياته ولا يعرف أحد السّبب الذي جعله يرسل إليها ورقة الطّلاق من سجنه على الرّغم من عشقه لها وإخلاصها وتفانيها في حبّه.. لكنّ الظّاهر في الأمر يدلُّ على الباطن فلا شكّ أنّ ناظم خلال سجنه شعر أنّه ظلم تلك المرأة بتقييدها بعقد زواج من رجل ينتقل من سجن إلى آخر ويتركها للوحدة والحزن.

غادر ناظم حكمت تركيا وترك فيها روحه عام 1950 وبقي في منفاه حتّى وافته المنية في يونيو عام 1963 وهو في طريقه لإحضار الجرائد من البريد.

أعادت الحكومة التّركية الجنسية إلى ناظم حكمت عام 2001 بعد أن أسقطتها عنه بعد مغادرته إلى الاتحاد السّوفيتي.

ناظم حكمت شاعر الإنسانية

كتب ناظم حكمت الذي جاب العالم _ماعدا أمريكا_ قصائد إنسانية مؤثرة تدل على انتمائه الحقيقي لكلّ البشر أكثرها قرباً من القلب قصيدة كتبها عام 1956 عن طفل من بور سعيد التقى به يوماً ثمّ شاهد صورته في الجريدة:

(السّفن لا تعد ولا تحصى في بور سعيد

الشّمس قريبة، قريبة، والغيوم بعيدة.. بعيدة

وفي بور سعيد صغيري منصور وهو في العاشرة من عمره

يمسح الأحذية..

إنّه ناحل الجسم، مُغبر الوجه والملامح كأنّه نواة ثمرة البلح

إنّه رفيق صغيري منصور

ويردّد دوماً الأغنية نفسها ويعيد.. يا عيني.. يا حبيبي

لقد أحرقوا بور سعيد.. قتلوا منصوري الصّغير..

شاهدت صورته في الصّحيفة هذا الصّباح

ميتٌ صغير بين سائر الأموات..

يا عيني يا حبيبي …).

لو لم يكتب ناظم حكمت سوى هذه القصيدة لكفته في التّعبير عن مدى رقته وإنسانيته وعدالة القضية التي اقتنع بها ودافع عنها طيلة حياته القصيرة. وسيبقى ناظم حكمت ثروة قومية لتركيا والعالم؛ لأنّه شاعر عالمي وإنساني لم يقتصر شعره على وطنه على الرغم من عشقه الكبير له.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه