ناجي العلي .. من حنظلة إلى كاتم الصّوت

 

“عزيزي القارئ اسمح لي ان اقدم لك نفسي؛ أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا ..

اسمي: حنظلة، اسم أبي مش ضروري

إمّي: اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة ..

نمرة رجلي :ما بعرف لأني دايمًا حافي ..

تاريخ الولادة: ولدت في 5 حزيران 67

جنسيتي: أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا.

باختصار معيش هوية ولا ناوي اتجنّس؛ محسوبك إنسان عربي وبس”

**

هكذا عرّف حنظلة بنفسه؛ حنظلة الذي ولد بريشة ناجي العلي عام 1969م وبقي ملازمًا له إلى أن أطلقت عليه الرّصاصات من مسدّس كاتم للصّوت في مثل هذا اليوم 22 تموز “يوليو” منن عام 1987م.

بقي ناجي في غيبوبته في مشافي لندن إلى أن فارقت الرّوح جسده في 29 آب “اغسطس” من العام نفسه.

لقد كان ناجي يتحدّث عن نفسه وهو يقدّم حنظلة للنّاس؛ فقد بقيت روحه معلّقة عند سنّ العاشرة حيث هاجر أرض فلسطين وبلدته “الشّجرة “عام 1948م.

وكمثل حنظلة في إدارة وجهه للجميع، فقد أدار ناجي ظهره للجميع على الإطلاق إلّا فلسطين، جعلها أمام ناظريه، وجعلهم جميعًا وراء ظهره، فلم يكترث لهم ولم ترهبه تهديداتهم، وكانت نهايته واضحة أمام عينيه منذ البداية فهو القائل: “اللي بدّو يكتب لفلسطين، واللّي بدّو يرسم لفلسطين، بدّو يعرف حالو: ميّت”

وقد قرّر أن يبقى وجه حنظلة مجهولًا إلى أجلٍ وضعه في نفسه، فلمّا سئل عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربيّة غير مهدّدة، وعندما يسترد الإنسانُ العربيّ شعورَه بحريّته وإنسانيّته”

وهكذا ينبغي أن تبقى وجوه المهدورة كرامتهم، الفاقدين لحريّتهم وانسانيّتهم في مواطن الاستبداد؛ متواريةً تحت جناح الليل أو تحت لثام الخفاء لمواجهة كلّ طاغيةٍ أو لتتوارى خجلًا من ذلّها وهوانها.

نصيبه من اسمه

لقد كان لناجي العلي من اسمه النّصيب الأوفر والحظّ الأكبر؛ فهو النّاجي الذي نجا من الحفر التي سقط فيه السّائرون في زمنه.

نجا من حفرة التسوية المهينة المزخرفة باسم السّلام؛ فقد كان دومًا يقول: “كلّما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي، أنا أعرف خطًّا أحمر واحدًا؛ إنّه ليس من حقّ أكبر رأس أن يوقّع على اتفاقيّة استسلامٍ وتنازلٍ عن فلسطين”.

ونجا من وهم إغلاق الأبواب والرّضوخ لوهم تعب الطّريق؛ فطالما ردّد “هكذا أفهم الصراع؛ أن نصلب قاماتنا كالرّماح ولا نتعب”

وكانت المسافة بينه وبين فلسطين أوضح ما يكون، فيقول: “الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنّها بمسافة الثّورة”.

كما أنّه كان عليًّا وبقيَ عليًّا، فلم يستعلِ على أبناء شعبه، ولم ينفصل عنهم ليكون في برج عاجيّ أو طبقة نخبويّة تحكي أوجاع النّاس دون أن تعيشها، وكان في هذا واضحًا فيقول: “متّهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها، أنا منحازٌ لمن هم “تحت”.

وهكذا يكون المثقّف عليًّا حقًّا؛ عليًّا في قلوب النّاس وعليًّا في عقولهم وعليًّا في نظرهم حين ينحازُ إلى من هم “تحت”.

كاتمُ الصّوت

في أكثر من رسمة كاريكاتير أقضّت مضجع الطّغاة والمساومين واللابسين ثوب الوطنيّة زورًا على السّواء كان ناجي يقول: “لا لكاتم الصّوت”

وكأنّه كان يستشرف خاتمته التي ستكون بكاتم الصّوت وهو في طريقه إلى الجريدة ليرسم أوجاع النّاس وآلام المقهورين وفضائح المتنازلين.

ليست مصادفة أن يكون اسم المسدّس الذي يغتال ناجي العلي “كاتم الصّوت”؛ فكاتم الصّوت ليسَ مجرّد مسدّس يقتل بصمت، بل هو سياسة كلّ المجرمين مع المؤثّرين والثّائرين.

يظنّ المجرمون أنّهم بكاتم الصّوت يمكن أن يكتموا صوت ناجي العلي، وما دروا بأنّه مع أوّل رصاصة استقرّت في عنقه من الخلف خرجَ من ذلك الثّقب في الرّقبة طفلٌ في العاشرة اسمه “حنظلة” انطلق في فضاءات الحياةِ ممتشقًا غضبه؛ يتجوّل في أزقّة المخيم وزواريب القضيّة بقميصه المرقوع مديرًا وجهه لنا أكثر من ذي قبل، لكنّه هذه المرّة ينظر إلى وجهين اثنين لا يموتان ما دام حنظلةُ باقيًا؛ ناجي العلي والقضيّة.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه