موقع السّفارة الفرنسية في تونس: خدش للحياء الوطني

مهما طغت القُوى الاستعماريّة و طَرِبت لأمجادها الخوالي، فهيمنتها على المُستعمرات كانت آنذاك مفهومة. إلّا أنّ مواصلة ممارسة نفوذها بالتّواطؤ مع وكلائها المحليّين هو مُثير للسّخرية

إحدى و ستّون سنة و تونس تحيي ذكرى اِستقلالها في 20 مارس/آذار {رغم غياب الوثيقة الرّسمية للاِستقلال}. فتتجنّد كل محافظات الدّولة لمواكبة هذا الحدث وتنفرد تونس العاصمة دائما بالحشد الأكبر. غير أنّ المُتأمّل في المشهد الاحتفالي المُقام بالذّات في أهمّ شارع بها، شارع “الثّورة” تصعب عليه مجاراة المحتفلين فرحتهم. فمظاهر الاحتفال تنساب على طول الشّارع إلى أن تصطدم بسِياجٍ ودبّاباتٍ وقوات أمنٍ وجيشٍ مُرابطٍ  يحرس السّفارة الفرنسيّة من الجهات الأربع منذ سنوات. حِماية رهيبة لم تحظ بها حتى وزارة الدّاخليّة، الموجودة على بعد أمتار من السّفارة.

 ارتبطت صورة شارع الثّورة {شارع بورقيبة سابقا} في تونس العاصمة لدى السّيّاح العرب بالتّحديد،  بِمركزيّة موقعه و دلالاته. فهو الشّارع الرّئيسيّ الذي تلتقي فيه الطّرق نحو المدينة العتيقة بكلّ ما تحتويه من معالم وتستقرّ فيه نهايات خطوط النّقل العامّ القادمة من الضّواحي بأنواعها. إضافة إلى أنّه يحتوي على فنادق ومحلّات ومقاهٍ ومطاعم وممشى أخضر شاسع ومستقيم و جميل للمترجّلين يتوسّط اِتّجاهي سير السّيارات.

بل كنيسة

عادة ما ترتبط جولة السّيّاح بالتّرجّل في هذا الشّارع بأريحيّة من مستوى السّاعة الكبيرة شرقا نحو تمثال ابن خلدون غربا والذي يتوسّط ساحة الاستقلال الصّغيرة. بعد ذلك ينطلق الزّحام في نفس الاتّجاه بانطلاق شارع “فرنسا” {بتفرّعاته} وصولا إلى باب المدينة العتيقة بأزقّته الضّيقة محلّاته المُتراصّة.

إذا اِستثنينا الكنيسة الموجودة آخر الشارع باِسم التسامح وغضضنا الطّرف على أن شارعا رئيسيّا لبلد عربي مسلم لا يحتوي جامعا بل كنيسة، فإنّه لا يَشذّ عن تجانس المشهد الهندسي العام للشّارع سوى نقطتين فاقعتيْن هُما وزارة الدّاخليّة التي تجمّع أمامها التّونسيّون ذات 14 يناير/ كانون الثاني و انطلقت حناجرهم مُردّدة “ديغاج” لبن علي من جهة، وسفارة فرنسا الواقعة في نقطة التقاء شارع فرنسا بشارع الثّورة من جهة أخرى. فأمّا الأولى، فأمر اختيار موقعها من الأنظمة الدّيكتاتوريّة المتعاقبة، وعدم التعبير عن النّية في تغييره هو خير رسالة للتّونسيّين وللعالم أن الرّقابة و الرّدع وقوّة السّلاح هي منهج حُكم يمتدّ من المركز إلى الأطراف تماشيا مع طبيعة الحكم السياسي في البلدان العربيّة. وأمّا موقع السّفارة بتفاصيله { و الذي يُعتبر أكثر اِستراتيجيّة من الوزارة نفسها}، فهو رسالة أكثر بلاغة من الأولى.

    لم يكن موقع السّفارة يُزعجُ عامّة التّونسيّين قبل الثّورة، و لم تكن “العامّة” لِتمنح نفسها حتّى حقّ التّساؤل عن أسباب أحقّية فرنسا بانتصاب سفارتها في قلب العاصمة {مكان مقرّ المقيم العام قبل الاستقلال} باعتبار نظرة الفوقيّة والأفضليّة الفرنسيّة التي عمِل على ترسيخها نظام بورقيبة و بن عليّ من بعده في الوعي العام.

بعد الثّورة، وجدت السّفارة بالتّنسيق مع السّلطات المحلّية خير عُذرٍ لمَدّ جسور نفوذها على المحيط الخارجي بطريقتها المُستفزّة. فطوّقت نفسها بسياج عازل يمنع المترجّلين من اِستعمال الرّصيف من الجهات الأربع المحيطة بها واِستحوذت معه على جزءٍ من شارع جمال عبدالنّاصر {بكلّ رمزيّته} الذي يحدّها غربا وشارع هولندا {شرقا}. وتركت مُتنفّسا وحيدا لمدخلها من ناحية الجنوب {شارع ألمانيا}.

المحتل القديم

 إضافة إلى السّياج، اِستقرّت دبّاباتٌ مهيبة تتركّز أغلبها شمالا من ناحية شارع بورقيبة. مع انتشار قارّ لقوات الجيش و الأمن حولها. اللافت للنّظر أنّ حضور فرنسا في الشارع الرّئيسي للعاصمة لم يقتصر على موقع السّفارة الإستراتيجي بل عزّزته بفرض أسماء الشّوارع المجاورة على غرار: شارع فرنسا، باريس، مرسيليا، شارل ديغول، جون جيراس… ومِن سخرية القدر مثلا أن تجد المُحتلّ القديم مُتغلغلا في اللّغة اليوميّة للتّونسي ووعيه الذي انصاع للأمر بفعل التّرديد والتّقادم. فتمثال ابن خلدون { الرّمز} مُحاطٌ “فرنسيا” من الجهات الثّلاث: الكنيسة شمالا، والسّفارة جنوبا، و شارع فرنسا غربا. و السّاحة التي يتوسّطها التّمثال تحمل اِسم “الاِستقلال”. فكيف لعاقلٍ أن يَقْنع بمِصداقيّة الاِسم؟

   الغريب أنّ هذا المنظر يُثير تعجّب السّيّاح، لكن غالبا ما يُبرّره لهم المُسالمون على أنّ الحماية المُتّخذة على محيط السّفارة هي لدواعٍ أمنيّة طارئة. أمّا التّونسيّون الذين يعلمون أنّه وضع ليس بطارئٍ وإنّما قارٌّ و حاسمٌ، فيبدو أنّ التّعوّد واللّامبالاة استقرا في نفوس أغلبيّتهم، لولا بعض الأصوات المستنكرة والمُحتجّة أحيانا والتي تحرص السّلطات والإعلام على وأدها كُلّما انتفضت ولَقي خِطابها صدى. هذه القِلّة ترى في حرمانها من اِستعمال أجزاء حيويّة من الطّريق العام وتسخير أفراد من قوات الأمن العام لِحماية سفارة فرنسا باِسم المعاهدات الدّيبلوماسية هُو خَدْشٌ للحياء الوطني و استفزاز يوميّ للتّونسي الذّي يتمتّع بحدّ أدنى من الغيرة على بلده.

   مهما طغت القُوى الاستعماريّة و طَرِبت لأمجادها الخوالي، فهيمنتها على المُستعمرات كانت آنذاك مفهومة. إلّا أنّ مواصلة ممارسة نفوذها المُقنّع بعد أكثر من نصف قرن من “الاِستقلال” بالتّواطؤ مع وكلائها المحليّين هو مُثير للسّخرية من مفهوم الاِستقلال في حدّ ذاته. هؤلاء المتواطئون هم أنفسهم من يحرصون على مواصلة دفع عجلة الاِحتلال الاِقتصادي و الثّقافي و توجيه الآلة الإعلامية لتصوير فرنسا على أنّها “القُدوة” والحارس الأمين. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه